الثلاثاء، 16 يونيو 2015

مقرر الادب المقارن _ المستوى الرابع _ الفصل الدراسي الثامن _ قسم اللغة العربية




بسم الله الرحمن الرحيم







جامعة سنار
كلية العلوم الإسلامية والعربية
قسم اللغة العربية



مقرر الأدب الـمقارن
الـمستوى الرابــع
الفصل الدراسي الثامن



إعداد : د. نميري سليمان
 
 
           


                                                           

بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الأولى
تعريف الأدب المقارن
هو دراسة الأدب القومي في علاقاته التاريخية بغيره من الآداب , كيف اتصل هذا الأدب بذاك , وكيف أثر كل منهما في الآخر, ماذا أخذ هذا الأدب وماذا أعطى .
 وعلى هذا فالدراسة في الأدب المقارن تصف انتقالاً من أدب إلى آخر , فقد يكون هذا الانتقال في الألفاظ اللغوية , أو في الموضوعات , أو في الصور التي يعرض فيها الأديب موضوعاته , أو الأشكال الفنية التي يتخذها وسيلة للتعبير كالقصيدة أو القطعة أو الرباعي أو المزدوج , أو القصة , أو المسرحية , أو المقالة .
 وقد يكون الانتقال في العواطف أو الأحاسيس التي تسري من أديب إلى أديب آخر حول موضوع إنساني واحد أثر في عواطف الأول فتأثر الثاني بنفس هذه العواطف .
وقد يكون الانتقال في رأي معين رآه أديب من الأدباء فقلده وجرى عليه أدباء آخرون في آداب أخرى .
مفهوم الأدب المقارن
كثر الخطأ في تحديد مفهوم الأدب المقارن وفي نشأته مما جعله يتعثر في الدراسة، وينفر عنه الدارسون.
ومدلول الأدب المقارن تأريخي؛ لأنه يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها أو في ماضيها، وما لهذه الصلات من تأثير أو تأثر أنى كانت مظاهر هذا التأثير أو التأثر، سواء أكانت متعلقة بالأصول الفنية للعامة للأجناس والمذاهب الأدبية أو التيارات الفكرية أو اتصلت بطبيعة الموضوعات والمواقف والأشخاص التي تعالج أو تحكى في الأدب.
والحدود الفاصلة بين تلك الآداب هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب كلاهما بالعربية عددنا أدبه عربياً مهما كان جنسه الأدبي الذي انحدر منه فلغات الآداب هي ما يعتد به الأدب المقارن في دراسة التأثير والتأثر المتبادلين بينهما.
وعلى هذا التعريف كان الأولى أن يسمى التاريخ المقارن للآداب، أو تاريخ الأدب المقارن . 
والأدب المقارن جوهري لتأريخ الأدب، والنقد في معناهما الحديث لأنه يكشف عن مصادر التيارات الفكرية والفنية للأدب القومي. وكل أدب قومي يلتقي – حتماً – في عصور نهضاته بالآداب العالمية ويتعاون معها في توجيه الوعي الإنساني أو القومي ويكمل وينهض بهذا الالتقاء .
إن مناهج الأدب المقارن ومجالات بحثه مستقلة عن مناهج تأريخ الأدب والنقد لأنه يستلزم ثقافة خاصة يستطاع بها التعمق في مواطن تلاقى الآداب العالمية لا تقف أهمية الأدب المقارن عند حدود دراسة التيارات الفكرية والأجناس الأدبية والقضايا الإنسانية في الفن، بل إنه يكشف عن جوانب تأثير الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، وما أغزر جوانب هذا التأثر وما أعمق معناه لدى كبار الكتاب في كل دولة، وقد عبر عن ذلك أحد الكتاب الفرنسيين بقوله: " السرقات الأدبية التي تتناولها كل الدول على الأدب المقارن أرحب أفقاً وأعمق نظراً وأصدق نتائج في دراسته للصلات الأدبية والدولية من الدراسات القديمة الضيقة الأفق والقليلة الجدوى لما كانوا يسمونه : السرقات الأدبية ".
حدود المقارنة  العلمية وميادينها :
من هذا التقديم الذي قدمناه عن تأريخ الأدب المقارن يتضح لنا أنه لا يعد من الأدب المقارن من شئ ما يعقد من موازنات بين كتاب من آداب مختلفة لم تضم بينهم صلات تاريخية حتى يؤثر أحد في الآخر – فمثلاً لا يعد من الأدب المقارن،  يعقد من موازنة بين الشاعر الإنجليزي: "ملتن" Milton  (1606 – 1674)  وبين أبى العلاء المعرى (973-1057م)  لأن كليهما كان أعمى، وأنتج وهو خاضع لهذه العاهة، فعلى الأخص لأن لكل منهما آراء متطرفة فيما يخص الدين، وذلك أن كلا الشاعرين لم يعرف الآخر ولم يتأثر به، فتشابه آرائهما وظروفهما ومكانتهما الاجتماعية ليست لها قيمة تاريخية.
ولا يصح أن يدخل في حسابنا مجرد عرض نصوص أو حقائق تتصل بالأدب ونقده لمجرد تشابههما أو تقاربهما دون أن يكون بينهما صلة تواجد أو تفاعل من أي نوع كان. 
قد يكون الجري وراء مقارنة من هذا النوع مفيداً لتقوية الملاحظة وللإحاطة بمعلومات كثيرة، ولكن ليست له قيمة تاريخية حتى يعد من الأدب المقارن .
إن الغرض من دراسة الأدب المقارن هو الوصول إلى شرح الحقائق عن طريق تاريخي، وكيفية انتقالها من لغة إلى أخرى وصلة توالدها بعضها من بعض، والصفات العامة التي احتفظت بها حين انتقلت إلى أدب آخر، ثم الألوان الخاصة التي فقدتها أو كسبتها بهذا الانتقال .
أما الموازنات التي لا تشرخ شيئاً والتي تبقى غامضة لا يوضحها تاريخ فلا تفيد دراسة الأدب المقارن في شئ، ويشبه ما ذكرنا في أبعاد تلك المقارنة غير المعتمدة على الاتصال التاريخي تلك الموازنات أو المقارنات التي تكون في أدب قومي واحد مثل الموازنة بين أبى تمام  والبحتري، أو بين حافظ وشوفي فهذه المقارنات – على مالها من أهمية – لا تتعدى نطاق الأدب الواحد في حين أن ميدان الأدب المقارن دولي يربط بين أدبين مختلفين أو أكثر.
ومهما أعرنا الموازنات الداخلية لأدب واحد من أهمية فإنها أقل خصباً وأضيق مجالاً وأهون فائدة من الدراسات المقارنة لأنها لا تشرح إلا نمو الاستعداد والمواهب للكاتب مع علاقاته مع سابقيه من أبناء أمته، وكثيراً ما تشرح إلا نمو الاستعداد والمواهب للكاتب مع علاقاته مع سابقيه من أبناء أمته، وكثيراً ما تسير على وتيرة واحدة في حدود ضيقة كدراستنا للحريري وتأثيره ببديع الزمان الهمذاني ، أو كدراستنا للشعراء اللاحقين وتقليدهم للشعراء الجاهليين في الأدب العربي، فأين تقع هذه الدراسة مما لو وضعنا نصب أعيننا أن ندرس نوع المقامات ونشأتها في الأدب العربي وتطورها فيه تاريخياً ثم لانتقالها للأدب الفارسي وخطها منه أو أن تدرس موضوعاً كمجنون ليلى في الأدب العربي وكيف تطور في الأدب الفارسي فبعد عن ميدان الحب والغزل العذري إلى ميدان التصوف والرمزية في الأدب الفارسي .
مثل هذه الدراسات تعد من صميم الأدب المقارن على حين تعد الموازنات الأولى من نطاق الأدب القومي البحث.
بقي أن ننتبه إلى أن ميدان الأدب المقارن الذي شرحناه – وهو العلاقات الدولية بين مختلف الآداب –أوسع لما يبدو من أول وهلة فهو لا يقتصر على دراسة الاستعارات الصريحة وانتقال الأفكار والموضوعات والنماذج الأدبية للأشخاص من أدب إلى آخر بل يشمل دراسة نوع التأثر الذي اصطبغ به الكاتب في لغته التي يكتب بها بعد أن استفاد من أدب آخر فمثلاً صوفية الفرس من المسلمين من القرآن والدين ولكن بعد تأويلها تأويلاً كبيراً،  بحيث أدخلوا في مفهومها كثيراً فلسفة أفلاطون وأفلوطين العاطفية وكثيراً من مبادئ التصوف في الهند وإيران القديمة ولكنهم فهموا آيات القرآن وأحاديث الرسول(صلَّى الله عليه وسلم) على هذه الطريقة , أي بعد أن أخضعوهما لآرائهم وظنوا أنهم لها خاضعون .
  ومع ذلك نعدهم متأثرين بالقرآن والحديث عن طريق التأويل .
ويندرج في الأدب المقارن نوع من التأثير العكسي وذلك كأن يقاوم الكاتب أثر كاتب آخر في أدب أمة أخرى فينتج من هذه المقاومة أثرها في تأليفه كما فعل أحمد شوقي في إحدى مسرحياته .
وعلى الأدب المقارن في هذه الحالة أن يشرح شرحاً تاريخياً :
لماذا تعرض الكاتب في أمة إلى هذا النوع من التأثير دون ذاك؟  وما مبلغ شخصيته فيما تأثر به ؟
وما الألوان الخاصة والطابع القومي في أدبه؟  ولماذا اختلف عن الأدب الأجنبي الذي أثر فيه ؟
ولن يفيد كاتباً مهما كان عبقرياً أن يتأثر بنتاج الآخرين فيستخلصه لنفسه ليخرج منه نتاجاً منطبعاً بطابعه متسماً بمواهبه، فلكل فكرة ذات قيمة في العالم المتمدن جذورها في تاريخ الفكر الإنساني، الذي هو ميراث الناس عامة وتراث ذوى المواهب منهم بصفة خاصة.
إن الأدب المقارن يتناول الصلات العامة بين الآداب ولكن لا غنى له من النفوذ إلى جانب كل أديب ليتبين فيها ما هو قومي، وما هو دخيل، وليبين أهمية اللقاح الأجنبي في الأدب القومي وتكثير ثمراته، فالأدب المقارن إذن يرسم صورة لسير الآداب في علاقاتها بعضها بعض، ويشرح خطة ذلك السير، ويساعد على إذكاء الحيوية بينها، ويهدى إلى تفاهم الشعوب وتقاربها في تراثها الفكري، وفي الوقت نفسه يساعد على خروج الآداب  القومية من عزلتها لينظر إليها بوصفها أجزاء من بناء عام هو ذلك التراث الأدبي العالمي، وبهذا المعنى لا يكون الأدب المقارن مكملاً لتاريخ الأدب ولا أساساً جديداً أقوم لدراسة النقد فحسب بل هو عامل هام في دراسة المجتمعات وتفهمها ودفعها إلى التعاون لخير الإنسانية جمعاء .
المحاضرة الثانية
أهمية دراسة الأدب المقارن وقيمته التاريخية:
أولاً: أهمية دراسة الأدب المقارن :
إن لدراسة الأدب المقارن نفع كبير في المجالين القومي والعالمي ، ففي المجال القومي يؤدي الاطلاع على آداب أجنبية أخرى ومقارنتها بالأدب القومي ،إلى التخفيف من حدة التعصب للغة والأدب القومي بغير مقتضى صحيح .
 وكثيرا ما أدى التعصب الأعمى والغرور إلى عزلة اللغة والأدب القومي عن تيارات الفكر والثقافة المفيدة التي ساعدت على إثراء أدب من الآداب ، فقد كان الأدب الإنجليزي – بحكم الكبرياء الإنجليزية – قد عزل نفسه عن الآداب العالمية توهما من الأدباء الإنجليز أن ما عندهم أفضل مما عند الآخرين .
وظلوا كذلك حتى غزتهم أخيرا التيارات الأمريكية في الحضارة والأدب ، فأثرت في لغتهم بل في نظام حياتهم الاجتماعي كله .
ولم يستطع الإنجليز أن يقاوموا ، فإن التقدم الحضاري الأمريكي الذي غزا العالم كله لا يصعب عليه أن يغزو إنجلترا وهي الأقرب إليه والأوثق صلة به ، واهتزت لغة الإنجليز إزاء ذلك اهتزازا عنيفا أمام ما وفد عليها من المفردات والتعبيرات والأساليب الأمريكية  .
ويرى العالم الإنجليزي Gilford في هذه المواجهة بين اللغة الإنجليزية الأصلية والإنجليزية الأمريكية فائدةً وخيراً ، فهي :
1-                        تزود القارئ الإنجليزي بأفكار واتجاهات جديدة لم يكن ليطلع عليها وهو يعيش في عزلته السابقة, في وهم الاكتفاء الذاتي .
2-                        قد حطمت في المواطن الإنجليزي غروره واستعلاءه حين قدمت إليه ألواناً من الأدب وطرائق من التعبير كانت تنقصه .
3-                        قد حركت فيه غيرته الوطنية فدفعت الأديب الإنجليزي إلى تحدي الأدب الأمريكي محاولاً إثبات امتيازه وتفوقه .
ومن فوائد دراسة الأدب المقارن أنها تكون في الدارس دربة خاصة تعينه على تمييز ما هو قومي أصيل, وما هو أجنبي دخيل من تيارات الفكر والثقافة . ويستطيع الباحث إذا وصل إلى هذه المرتبة من الدربة الفنية أن يلتقط أصداء أديب من الأدباء في أدب أديب آخر , ويستطيع أن يميز التيارات ولو كانت خفية , والظلال مهما تكن باهتة التي تتسلل من أديب سابق إلى أديب لاحق. ويستطيع هذا الأديب الخبير أن يكشف الاتجاه السائد في أدب الأديب , والنبرة البارزة فيه , والمزاج الذي يتحكم في توجيهه , ويصل الخبير إلى مثل هذه النتائج بعد مقارنات طويلة ودراسات واسعة , واطلاع على كثير من النماذج الأدبية في مختلف الآداب .
وهو يمعن النظر في الألفاظ التي يستخدمها الأديب ما يكثر منها في الجملة وما يندر , وطريقة تركيبها .
في الحذف , والتكرار , والإيجاز , والإطالة , إيراد ألفاظ بعينها , تحميل بعض الألفاظ معاني خاصة تستخدم في إحدى البيئات ولا تستخدم في غيرها , في التحمس لبعض القضايا والنزعات والمفاهيم وإهمال ما عداها .
ثانياً : القيمة التاريخية في نشأة الأدب المقارن :
من الطبيعي أن يسبق ظهور الأدب المقارن وجود ظواهره المختلفة في الآداب العالمية، وليس الأدب المقارن بدعاً وبخاصة في العلوم الإنسانية اللغوية، فقد سبقت الظواهر الفلكية وجود علم الفلك، والظواهر الاجتماعية والنفسية قديمة قدم الإنسان والجماعات الإنسانية على حين لم يظهر على النفس والاجتماع إلا في العصور الحديثة .
وبديهي أن ظواهر النحو والبلاغة تسبق علوم النحو واللغة في كل أمة.
وأقدم ظاهرة في تأثير أدب في آخر وأعظمها نتائج في القديم، ما أثر به الأدب اليوناني في الأدب الروماني حينما انهزمت اليونان أمام روما (146 ق.م) ولكنها ما لبثت أن جعلناها تابعة لها ثقافياً وأدبياً، وكثيراً ما يردد مؤرخو الفكر الإنساني أن روما مدينة اليونان في فلسفتها وفنها ونزعتها الإنسانية وأدبها كله.
وفي هذا كله كانت محاكاة الرومانيين لأدباء اليونان وكتابهم وفلاسفتهم ملحوظة من مؤرخي الأدب والفكر، حتى مؤرخي الرومان أنفسهم . 
ولم يكن للأدب اللاتيني من أصالة تذكر ليستل بها عن تأثير الأدب اليوناني فيما عدا ما يحتمل أن يكون من جنس التاريخ والخطابة.
وفي العصور الوسطي خضعت الآداب الأوربية المختلفة لعوامل مشتركة وحدت بعض اتجاهاتها ووثقت علاقاتها بعضها ببعض وكان لهذا التوحيد في اتجاه الأدب مظهران عاما :
أولهما :
ديني كان فيه رجال الدين هم المسيطرون فكان منهم القراء والكتاب معاً وتغلغل الروح المسيحي في ذلك النتاج الأدبي ، فقد كانت اللاتينية هي لغة العلم والآداب كما كانت هي لغة الكنيسة .
ثانيهما :
كان في الفروسية التي وحدت بين كثير من الآداب الأوربية في تلك العصور .
وفي هذين الاتجاهين سار النتاج الأدبي الأوربي في كثرته الغالية مما أكسب ذلك الأدب طابع العالمية في اتجاهه العام.
وفي عصر النهضة اتجهت الآداب الأوربية وجهة الآداب القديمة من يونانية ولاتينية، وكان للعرب فضل توجيه الأنظار إلى قيمة النصوص اليونانية بما قاموا به من ترجمات الفلاسفة اليونان وبخاصة " أرسطو" فحاول رجال النهضة الرجوع إلى تلك النصوص  في لغاتها الأصلية ثم أخذوا في طبع النصوص اليونانية في ترجمتها بمثابة ثورة فكرية في ذلك العصر لأنها كانت تتضمن الخروج على آداب العصور الوسطي ذات الطابع المسيحي وعاد رجال الأدب في عصر النهضة إلى نظرية المحاكاة محاكاة الأقدمين من يونانيين ولاتينيين وكانوا ولوعين بما في هذين الأدبين من اتجاهات إنسانية، لأنهما عنيا بالإنسان ومشكلاته لا من وجهة النظر الميتافيزيقية بل من وجهة نظر إنسانية ولهذا سميت بالنزعة الإنسانية.
كان القرن التاسع عشر في أوربا عهد تقدم ملحوظ من الناحية الاجتماعية وفي البحوث العلمية .
 ويتبع هذا التقدم نزعة قوية في استصحاب نواحي البحث في العلوم الأدبية من جهة، وفي تعرف الشعوب بعضها ببعض من جهة أخرى، فكثرت الأسفار وتعددت التراجم للآثار الأدبية لمختلف الدول وعكف العلماء والكتاب على درس مختلف الظواهر الاجتماعية والأدبية متعمقين في بحوثهم محاولين رجع كل ظاهرة إلى أسبابها، ونشأ عن ذلك اتجاهان عامان أثرا في نشأة الأدب المقارن، هما:  الحركة الرومانتيكية ، والنهضة العلمية

المحاضرة الثالثة
الحركة الرومانتيكية وأثرها في نشأة الأدب المقارن
أ‌-    الحركة الرومانتـيـكـيـة:
الرومانتيكية فاتحة العصور الحديثة في الفكر والأدب، وأهميتها في تاريخ الفكر الحديث بالغة ، لأنها قد يسرت للإنسان الحصول على حقوقه ، إذ مهدت للثورات وناصرتها، كما أنها مهدت لجميع المذاهب الأدبية الحديثة التي تلتها.
وسنتحدث عن مبادئها بالقدر الذي يساعد على فهم تأثيرها في نشأة الأدب المقارن، وقد كانت هذه المبادئ في جملتها معارضة للمبادئ الكلاسيكية التي قامت الرومانتيكية على أنقاضها في أواخر القرن التاسع عشر، وقد قامت الرومانتيكية في إنجلترا ثم في ألمانيا – فرنسا – أسبانيا – إيطاليا.
وسنقابل بين مذهبي الكلاسيكية والرومانتيكية ليتضح لنا ما قامت به الرومانتيكية من تأثير عام، ثم من توجه في الدراسات الأدبية وجهة نظر مقارنة.
أولاً : العقـل والعاطفــة :
كان العقل عند الكلاسيكيين أساس فلسفتهم في الجمال والأدب، على حين عنى الرومانتيكيون بالقلب والعاطفة دون العقل.
أما الكلاسيكيون فكان العقل عندهم مرادف للذوق السليم، أو صواب الحكم .  ولا تتوافر السلامة أو الصواب إلا إذا اتفق الحكم مع ما تواضع عليه المجتمع وما ساده من تقاليد، وفي هذا الاتجاه يظهر العقل صواب الحكم فيجب أن تقاد العبقرية الفردية بذمام الحكم الجماعي الرشيد عندهم دائماً، ويجب أن تمر الخواطر في مجال التفكير لتصفي عليه وتهذب حتى تخرج للناس منطقية معتدلة غير مشوبة .

والشعر عندهم لغة العقل فلابد من أن يبرأ من الخيال الجامح والنزعات الفردية والعواطف الجياشة، وعلى الشاعر ألا يسجل في خواطره في شعره إلا ما هو عام مشترك بين الناس كما يقتضيه المنطق والفكر وخير الكتب عند الكلاسيكيين هي تلك التي يقرأها المرء فيرى فيها أفكاره حتى يعتقد إنه كان يستطيع تأليفها.
والأفكار المشتركة كالإحساسات المشتركة هي أجمل ما يستطيع الكاتب أن يجلوه للناس، وقد دعوا إلى اتباع اليونان والرومان فبنظريتهم في المحاكاة سام العقل وعظموا من شأن أرسطو واتبعوا ما سن لهم من قواعد، لأنه كان يعتمد على سلطان العقل وعندهم أن الأقدمين جميعاً كانوا خير مترجمين للعقل .

وقد استندت هذه النزعة العقلية عند الكلاسيكيين أولاً على ما قاله شراح "أرسطو" من إيطاليين وفرنسيين وغيرهم، فضلوا العقل لأنه ثابت غير متغير ولأنه دعامة الصالح لكل زمان ومكان وهو ما يحرصون عليه في أدبهم طالما دعوا إلى كبح جماح الخيال وقيادته بالعقل الجماعي أو الذوق السليم.  وقد غالى بعضهم فهجن الشعر وحط من قدره باسم العقل لأن الفكرة الواضحة يفضل فيها النثر الشعر.
أما الرومانتيكيون فأنهم يجحدون ذلك الاتجاه العقل الذي مجده الكلاسيكيون ويستبدلون به العاطفة والشعور وهم يسلمون قيادتهم إلى القلب لأنه منبع الإلهام والهادي عندهم الذي لا يخطئ إذ هو موطن الشعور ومكان الضمير.
والضمير عندهم قوة من قوى النفس قائمة بذاتها وهى غريزة خُلقية تميز الخير من الشر عن طريق الإحساس والذوق ، وكان أحد كبار روادهم " الفريد دي موسييه " قد نصح صديقا ً له بقوله :أقرع باب القلب ففيه وحدة العبقرية وفيه الرحمة، والعذاب ، والحب ، وفيه صخرة صحراء الحياة حيث تتجبس أمواج الألحان إذ مستها عصا موسى .
وقد قامت الرومانتيكية على أساس الفلسفة العاطفية التي راجت في أوروبا في القرن الثامن عشر، وقوام هذه الفلسفة إن الفهم والشعور أساسان للإدراك ولكن إذا كانت القوانين التي تخضع لها الأشياء هي موضوع الإدراك العلمي فإن العقل يعتمد في تنظيمه لعام وما فيه من ظاهرات حسية على الشعور بالجمال، والجمال هو دعامة كل نشاط إنساني وهو أساس ما في الإدراك نفسه من نظام ومن صيغة تظهر فيها شخصية الإنسان وأصالته .
ثانياً : الجمــال :
هناك مسألة شغلت الفلاسفة أهل الفن طوال القرن الثامن عشر فتساءلوا: ما الجمال ؟  وما مقاييسه ؟ فكانت الإجابة سهلة هينة في العصر الكلاسيكي؛ فما الجمال إلا انعكاس الحقيقة .
والجمال هو في كل العصور والبلاد، شأنه في ذلك شأن الطبيعة .
وعند الكلاسيكيين أن " الذوق الكلاسيكي لباريس مطابق لذوق أثينا ، إذ تأثر الباريسيون  بالغ التأثير بالاثينيين .
أما الرومانتيكيون فمرد الجمال عندهم إلى الذوق .
والذوق فردى . 
وخلق الفنان للجمال يستلزم القريحة أو العبقرية .
ومن هنا تفرعت أسئلة تقول: ما الذوق؟ ما العبقرية؟  أسئلة كثيرة وبحوث أكثر زلزلت القواعد الكلاسيكية فبعد أن كان الجمال موضوعياً،  أصبح ذاتياً، وبعد أن كان مطلقاً أصبح نسيباً، وبعد أن كان تطبيقاً لقواعد تجريدية صار مرده إلى تقاليد تجريبية أساسها الحاسة النفسية  الجمالية التي هي منبع ما فينا من مشاعر وعواطف ، وهذه الحاسة هي التي تجعلنا نبحث عن أن أنواع المتع التي نحصلها بمعرفة المبادئ والأسباب.
وقد يضيف العقل إلى متعة الجمال بالكشف عن منفعتنا أو بما نشعر به من السرور الذي يصحب – عادة – المعرفة في ذاتها ولكن العقل ليس جوهرياً بالنسبة لها، أي أننا إذا حرمنا تلك الحاسة الجمالية الذاتية فإننا سنقول : أن المنازل والحدائق والثياب لائقة أو مفيدة أو مريحة، ولكن لن نقول أبداً أنها جميلة.
التدريبات:
1-        ما هي أوجه التشابه والاختلاف بين الرومانتيكية والكلاسيكية ؟
2-        تحدث عن مبادئ الحركة الرومانتيكية التي ساعدت على نشأة الأدب المقارن .
3-        كيف أثرت الحركة  الرومانتيكية في الأدب المقارن ؟


المحاضرة الرابعة
الغاية من الأدب: وصلة النقد بنشأة الأدب المقارن:
كان أدب الكلاسيكيين خلقياً في غايته، فالملحمة يجب أن تكون خلقية غايتها إصلاح العادات، والشعر يجب أن يكون كذلك يلقن الفضائل الدينية والاجتماعية، والشاعر للحق هو من يتوافر في شعره الإمتاع والإفادة، والمسرحيات يجب أن تكون خلقية وويل للمؤلف المسرحي الذي يجلو الرذيلة في صورة حسنة أو ينتصر لها، وتقدم الأدب الكلاسيكي – بعامة – على أساس " أن الحق ينتصر فيه على الباطل ولا يرتفع وضيع إلى مكانة رفيعة " فإذا قام صراع بين العاطفة والواجب ، انتصر الواجب لأن الإدارة يجب أن تسود جميع العواطف .
وقد تنتصر العاطفة على الواجب في المسرح الكلاسيكي، ولكن المؤلف لا يعرض ذلك إلى بين مواطن الضعف الإنساني ويحذر منها.
ولقد ثار الرومانتيكيون على الغاية الخلقية من الأدب كما حددها الكلاسيكيون ورأوا أن الأدب استجابة للعواطف، وهذه العواطف ليست شراً بل هي الخير كله لأنها مجلي الجمال النابع من الضمير. 
ولقد صوروا في أدبهم عالم الجمال في أحلامهم ، يريدون أن يثوروا به على شروط المجتمع من حولهم ، وكانوا يبكون في يسر وسهولة رحمة على المظالم وضحاياها مطلقين العنان لعواطفهم وأحلامهم .
على أن الأدب الكلاسيكي كان محصوراً في دائرة التقاليد والعقائد السائدة إذ كان أدباً أرستقراطياً محافظاً، ففيه كان الكتاب يؤمنون بحق الملوك الإلهي كما كانوا يؤمنون ويكتبون لصفوة مميزة من الشعب لا تريد أن تقرأ سوى أفكارها .
ويعيش هؤلاء الكتاب في جملتهم عالة عليها ، وقد كان الكاتب الكلاسيكي من الطبقة الوسطي برجوازي المنطق غالباً وكان يعتمد على الطبقة الأرستقراطية التي تعوله، ولذا لم يلعب إلا دوراً ضئيلاً في المجتمع المستقر الثابت الدعائم، فلم يكن في مكنة العصر أن يدرك ثورة شبيهة بالثورة الرومانتيكية؛ لأنه لابد لها من اشتراك جمهور خائب مرتاب يفاجئه الكاتب ويزلزله ويوقظه بما يوحي إليه من أفكار وعواطف كان يجهلها، فهي لذلك تتطلب تلقيحاً وإخصاباً .
أما الرومانتيكيون فلم يعبأوا بما استقر في المجتمع من عقائد وأفكار لا مبرر لها دينياً أو سياسياً وكان كل شئ في أدبهم موضع تساؤل ولذلك ساعدوا على نشر العدل الاجتماعي وهدم الطبقات الطفيلية ويسروا الطريق أمام الطبقة الوسطي لتملك مقاليد الحكم، وذلك لأنهم اعتدوا بحقوق الفرد في وجه المجتمع، على حين انتصر الكلاسيكيون للمجتمع على حساب الفرد .
والذي دفع كتاب الرومانتيكية إلى هذا الاتجاه ما كانت عليه حال أوربا منذ القرن التاسع عشر من زلزلة في القيم، وتبدل في الطبقات الاجتماعية، وعلى ما يصحب مثل هذا الحال عادة من بعض التحلل الخلقي فقد قامت إلى جانب جهود جدية ترمي إلى التحرر الفكري والسياسي وتمثلت هذه الجهود في الطبقة الوسطي التي أخذ عددها يتكاثر كلما تقدم بها العصر، ولقد رأى فيها الكتاب جمهوراً جديداً لهم يمكنهم أن يعتمدوا عليه بدلاً من الطبقات الأرستقراطية، ويتطلب منهم ذلك الجمهور المساعدة على نيل حقوقه من تلك الطبقات، وكان كثير من هؤلاء الكتاب يشعرون أن جمهورهم المهضوم الحق هو من نفس الطبقة البرجوازية التي نشأوا فيها فاختاروا لأنفسهم أن يتحرروا من قيود أسلافهم ليناصروا مطالب طبقاتهم وليسهموا بذلك في هدم الطبقات القليلة من الأرستقراطيين.
وفي هذا الاتجاه كان الأدب الرومانتيكي أدباً ثائراً يهتم بمصالح الفرد وينتصر له ضد مظالم المجتمع ، وكان ذا طابع إنساني شعبي في اختيار أشخاصه وموضوعاته ثم التحدث عن المشاعر والعواطف الفردية والتعبير عن الآمال العامة للطبقة الوسطى، وكان لهذا الاتجاه نتائج ثورية خطيرة تمس قضايا الدين والمجتمع الطبقية والعاطفة بعامة ثم كانت له كذلك نتائج فعلية تمس الأدب والنقد، ونحن هنا لا نهتم إلا فيما يخص النقد الأدبي وصلته بنشأة الأدب المقارن .
النقد الأدبي وصلته بنشأة الأدب المقارن
وضح مما سبق أن الكلاسيكية كانت تعنى بالمجموعة في وجه الفرد، فكانت لا تعتد بالذوق الجمالي الفردي ولا المشاعر الذاتية، فكانت في نقدها متأثرة بهذه النظرة، ولذا كان الكلاسيكيون ولوعين في نقدهم بتحديد القواعد العامة للأجناس  الأدبية، ولم يكن ينظر – عندهم –  للنتاج الأدبي إلا على أساس هذه القواعد.
وقد ضاق الرومانتيكيون ذرعاً بهذه القيود التي تحد من حرية الكاتب وتمحو ذاتيته ونعوا على الكلاسيكيين خضوعهم لما تخضه له  العبقرية، غير مؤمنين بسوي الفرد وما رزق من موهبة، فكما رفعوا من حقوق الفرد على حساب المجتمع ونظمه نادوا كذلك بحق  العبقرية الفردية في وجه كلما يحد منها.
ومنذ تحطمت قواعد النقد الكلاسيكية ظهرت نتائج بعيدة الأثر في النقد ومقاييسه، فصار الرومانتيكيون ينظرون إلى الأدب على أنه من إنتاج الفرد وعبقريته إلا أنه آراء وأفكار تصب في قوالب مصنوعة.
فأصبحت مهمة النقد  تفسير ذلك الإنتاج تفسيراً علمياً بوصفة تجربه حية للفرد في بيئته الخاصة بعد أن كانت وظيفة النقد الكلاسيكي ، بيان مدى إتباع  الكاتب للقواعد المفروضة عليه، وقياس براعته بمقدار خضوعه لها، وطبيعي أن قواعد العقل والذوق السليم في معناه الكلاسيكي لم يعد لها مكان في النقد الرومانتيكي لأن الذوق يتغير من أمة لأمة ومن فرد لفرد.
ولهذه النظريات الناقدة يرجع الفضل في ميلاد تاريخ الأدب في معناه الحديث فقد كان التاريخ قبل الرومانتيكيين لا يتجاوز ذكر حياة المؤلف ثم سرد مؤلفاته وذكر نماذج منها، وشرح بعض معانيها اللغوية، وخصائصها البلاغية، وقلما حاولوا إحلال  المؤلف محله في عصره فإذا تعرضوا لذلك ارتكبوا بعض الأخطاء وكانت أحكام أولئك النقاد مستمدة من القواعد  العامة التقليدية ولم يكن منهم من يربط بين حياة المؤلف وبيئته، وجنسه، وطبقته، وإنتاجه الأدبي ،
ليشرح ذلك الإنتاج ويبين خصائصه الفنية، وكيفت تأثر المؤلف فيه بسابقيه، ثم مدى أثره فيهم.
وذلك هو معنى تاريخ الأدب الحديث، وهو وجهة النقد الحديث كذلك، وللرومانتيكين فضل في ميلادها دون أدنى شك، وقد أثرت نشأة هذين العلمين من علوم الأدب في نشأة الأدب المقارن.
وكان في طليعة النقاد الرومانتيكيين "وليهلم شليجل" (1746 – 1845)  ثم "مدام دي ستال" (1766 – 1816) وكانت تدعو إلى أن ينظر إلى الأدب من حيث علاقته بالبيئة والمجتمع.
وهناك اتجاه رومانتيكي آخر ينظر إلى الأدب في علاقته بمؤلفه وأكبر دعاة هذه الاتجاه.
(سانت بوف 1804 – 1869).

المحاضرة الخامسة
النهضة العلمية وأثرها في نشأة الأدب المقارن
النهضة العلمية :
وهذا هو الاتجاه العام الثاني الذي أثر في نشأة الأدب المقارن، وكان الأول هو الحركة الرومانتيكية التى افضنا الحديث فيها سابقا ً.
فمن المعلوم أن القرن التاسع عشر كان بدء العصور الحديثة من ناحية التعمق في الدراسات النظرية والعلمية، ومن ناحية بناء الدراسات العلمية على أساس نظرى منهجى ثم ومن حيث بدء ظهور المخترعات الحديثة، وقد سبق ذلك وصحبه اتجاه عام إلى البحث عن اصول الأشياء والتنقيب عنها والتعليل لها وكان لهذه النهضة العلمية وللعلوم الإنسانية تأثير عميق في الأدب والنقد فقد أخذت الثقة في العلم تزداد لدى النقاد والكتاب،وكانت هذه الثقة أساساً لتفاؤل بعض الرومانتيكيين في ما يخص مستقبل الإنسانية وتقدمها المطرد بتقدم العصور .
ثم كان التقدم العلمي نفسه سبباً من اسباب القضاء على الرومانتيكية ، ذلك أن جمهور الكتاب والنقاد أخذوا يعتقدون أن العلم سيحل كل مشاكل الإنسانية وأن مناهجه هى المناهج التى يجب أن يتبعها الأدب والنقد كى يسيرا في طريق مأمون ويصلا إلى نتائج سليمة، ومن ثم لم يعد للانطلاق  في عالم الأحلام مجال إذ انصرف الأدب إلى واقع  الحياة يصف في موضوعية ما تذخر به من مواطن البؤس والضعف متحرراً من جموح الخيال وانطلاقاته ، وبذلك ماتت الرومانتيكية وقامت على أنقاضها الواقعية في القصة والمسرحية ثم "البرناسية" في الشعر، وهى تقابل الواقعية في النثر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
وكان العام سبباً في وجود جمهور جديد للكتاب هو جمهور العمال، فأخذ الكتاب في واقعيتهم يدافعون عن هؤلاء  العمال في قصصهم ومسرحياتهم مهاجميه البرجوازيين في ذلك الأدب بعد أن كان الرومانتيكيون يساعدون في أدبهم " البرجوازيين "ضد الأرستقراطيين، وفي ذلك كله أثر العلم في موضوعات الأدب وفي موضوعية النقاد واتجاهاتهم العلمية إلى الشرح والبحث عن أصول الأفكار.

ونتيجة لهذه الجهود العلمية الأنانية منها والأدبية ذاعت فكرة الأدب المقارن وروج لها في أوربا وبخاصة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فظهرت فيه بحوث كثيرة منها ما نره العالم السويسري " مارك مونييه " في دراسته لتاريخ النهضة من " دانته " إلى " لوثر " ومن " لوثر " إلى" شكبير " وغيرها من البحوث التى لا تخلو من أوجه النقص أحياناً .
وقد وفيت كل وجوه النقص واكتمل بحق معنى الأدب المقارن على يد البحاثة الفرنسي " جوزيف تكست " فهو يعد حقاً أباً للأدب المقارن الحديث فقد انصرف لدراسة الصلات بين الآداب الأوربية، وكانت دراسته تمتاز بالأفق الواسع والنظرة الشاملة في بيان تطور الأفكار واختلافها على حسب تطور الشعوب واختلاف أحوالها الاجتماعية وبهذا عولجت مسائل كثيرة من مسائل الأدب المقارن ووضحت معالمه .
وقد رأينا إذن كيف تمت نشأة الأدب المقارن، وكيف استغل عن النقد الأوربي دون تاريخ الأدب .
ولكنه بقى مع ذلك مكملاً لهما وجزءاً جوهرياً في دراستهما .
فمن الخطأ التوجه في دراسة الأدب المقارن إلى التقنين أو التعميم دون أن يسبقها ويمهد لها دراسات تحليلية مفصلة تعتمد على حقائق التاريخ وعلى نصوص مختلفة من الآداب.

إن الأدب المقارن يدرس الآثار الأدبية كما هي في جوانبها الفنية والفكرية في كيفية تكوينها، وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية، وهو مع دراسته للأذواق وتطورها، وللحياة الإجتماعية وأحوالها، وللشعوب وميولها لا يفعل ذلك إلا ليستوعب دراسة المظاهر المختلفة للمواهب الفردية واهتمامه الأول إنما هو بتحليل مظاهر الأنشطة الأدبية وأصولها ونتائجها بصفة عامة .
المحاضرة السادسة
ميدان البحث في الأدب المقارن:
يجمل بنا – قبل الإفاضة في كل فرع من فروع الأدب المقارن – أن نجمل القول في هذه الفروع على حسب الاعتبارات التى يرمي إليها، وقد عرفنا من قبل أن موضوع الأدب المقارن هو تبادل الاستعارات الأدبية بين آداب اللغات في أوسع ما تدل عليه كلمة الاستعارات من أجناس أدبية وصور فنية، وموضوعات وأساطير، ونماذج لأي شئ من البشرية.
وقد ينظر في ذلك كله إلى وسائل عبور هذه الاستعارات من أدب لغة إلى أدب لغة أخرى ومن بلد إلى بلد أخرى، وقد ينظر إلى المسائل المتبادلة نفسها وكيف تغيرت فزيد فيها ونقص منها حيث انتقلت من اللغة التى أثرت إلى التى تأثرت، وفي الحالة الأولى تدرس عوامل الانتقال وملابساته، وفي الثانية تدرس المسائل نفسها من الموضوعات والأجناس الأدبية من المصادر والتيارات الفكرية ، ومن كل ذلك نتبين تنوع فروع الأدب المقارن وسنجمل فيها القول إجمالاً تميهداً للتفصيل فيما بعد إن شاء الله .

عوامل انتقال الأدب من لغة إلى لغة :
ولهذا الانتقال عاملان
1-                       الكتب :
للكتب تأثير كبير في إثبات الصلات الأدبية بين مختلف اللغات فهي التى تلقى ضوءاً ضعيفاً أو قوياً على علاقات بلد ما بمؤلف أو مجتمع أو بإنتاج أدبي في بلد آخر .
والأدب المقارن يهتم أولاً بإثبات الصلة بين الأدب المؤثر والوسط المتأثر، ويستعان في ذلك بما أدلى به المؤلف من تصريحات من نوع ثقافته وتأثره  بكاتب أو ثقافة بلد ما ، وقد يكون المؤلف نفسه قد كتب بعض مؤلفاته بلغة أجنبية فتكون لها دلالتها التى لا تنكر على تأثره بأدب اللغة التي كتب بها ،وذلك مثل أكثر كتاب الفرس وشعرائهم وكانوا من ذوى اللسانين  العربي والفارسيومما يدخل في هذا الباب دراسة لترجمة من لغة إلى لغة ولما راجت في الأمة التى ترجمت إليها ولكي يستطاع الحكم على الترجمة يجب أن يرجع إلى الأصل الأدبي ويقارن بينه وبين مختلف ترجماته إلى اللغة المنقول إليها، ثم يشار إلى أنواع التصرف في تلك الترجمات ودلالتها .
ومما لا غنى عنه في هذا الباب كتب النقد والصحف التي تتحدث عن الكتاب والشعراء والأجانب، فمثلاً إذا تتبعنا المجلات العربية والصحف القديمة نجدها تقدم كثيراً من الكتاب الأجانب لقرائها، وذلك مثل مجلة " المجلة " " الآداب " " والكاتب "، فلابد من دراسة هذه الإشارات للوقوف على الحركة الفكرية العامة للعصر.
ومن هذا النوع من الدراسات : أدب الرحلات وما له من تأثير في تعريف الشعوب بعضها ببعض وصلة ذلك بآدابهم.
ومما يعين الباحث في هذا السبيل تحديده لمدى رواج الكتب في البلد الذي يدرس تأثيرها فيه .
ويستعان في ذلك بفهارس الكتب في دور الكتب، وإحصاءات الطبع في دور الطبع .
2- المؤلفون :
الكتب وحدها لا تحدد العلاقات الأدبية بين الأمم المختلفة وإنما يجب دراسة المؤلفين والمترجمين، لأن الكتب هي وسيلة تعرف العلاقات، ولكن إذا كنا بصدد كتب مؤلف مشهور فإننا لا نستطيع أن نهمل دراسته في صلاته بالبلاد الأخرى، وكيف عرفها وعرفها لبلاده في أدبه، ومن ذلك دراسة رجل كابن المقفع فيما نقل إلى العربية من روائع لغته، فلكى ينظر إلى إنتاجه – بوصفه صلة بين الأدب الإيراني والأدب العربي – يجب أن تدرس صيانة نفسه وأن يتعرف على ثقافته وميوله الفارسية وما يمكن أن يكون لكل ذلك من صدى في مجهوده الأدبي في الترجمة التى قام بها.
فلكي نستطيع تقدير كاتب أو رحالة أو مترجم من الأعلام المشهورين يجب أن نعرف من أدب لغته ومن حياته وأحوال بلاده وما يمكننا من صدق الحكم عليه .
** دراسة الأجناس الأدبية :
يراد بالأجناس الأدبية القوالب الفنية الخاصة التي تعرض بطبيعتها على المؤلف اتباع طريقة معينة ، فمثلاً يتبع المؤلف طريقة خاصة حيث يباح في شكل تمثيلي نفس الموضوع الذي قد يعالجه آخر في قالب خطابي .
ونستخدم هذه الأجناس في تقسيم الإنتاج الأدبي إلى فروع وهذا التقسيم لا غنى عنه في الدراسة المقارنة .
فمثلاً: كيف نشأت قصة الرعاة ومسرحية الرعاة في الأدب الأوربي؟  ولماذا راجت مسرحية الرعاة في القرن السادس عشر في فرنسا؟ ولماذا انصرف عنها المؤلفون في أوائل القرن السابع عشر؟  ولماذا انتشرت القصة التاريخية في كل أوربا في القرن التاسع عشر؟  وما أسباب الانصراف عنها؟  وكيف نشأت القسمة والمسرحية في الأدب العربي الحديث؟  وما الأسباب التى تحكمت في خلق هذين الجنسين وفي تطورهما؟
ويدخل في هذا الباب دراسة الأجناس الأدبية القديمة كدراسة الخرافة على لسان الحيوان وكيف أدخل بن المقفع هذا الجنس الأدبي في الأدب العربي مثلاً،  وإلى أي مدى تأثر به الأدب العربي، ثم كيف أثر الأدب العربي بدوره – من هذه الناحية – في الأدب الفارسي الحديث .
والدراسة في هذا الباب دراسة تاريخية تستمد أصولها من تتبع كل نوع من هذه الأنواع وتطوره في لغتين أو أكثر، والعوامل التى أثرت فيه وفي كل الآداب التى يراد دراستها .
هذه الدراسات على الرغم من أنها تاريخية في جوهرها فهي ذات قيمة في الدراسات المعاصرة ، وبخاصة في أدبنا العربي الحديث الذي يستمد أكثر أجناسه من الآداب الأوربية، ويبتعد بذلك كثيراً أو قليلاً، عن مصادره من الأدب العربي القديم .
وقد يرمى الباحث إلى درس جنس أدبي في أدبين فقط، كدراسة القصة التاريخية في الأدبين الإنجليزي والفرنسي، وكدراسة القصة الرومانتيكية الفرنسية وتأثيرها في القصة العربية.
وقد يرمى  إلى دراسة جنس أدبي في أكثر من أدبين كدراسة القصة الرومانتيكية في الآداب الأوربية، ثم تأثيرها في القصة العربية، وفي كل الحالات على الباحث في الأدب المقارن أن يراعى ما يأتي :
1-        أن يحدد الجنس الأدبي الذي سيدرسه ، فمثلاً: (القصة التاريخية المسرحية الكلاسيكية – القصة الريفية ...)
2-        أن يقيم الباحث الأدلة على تأثير الكاتب أو الكتاب بالجنس الأدبي الذي هو موضوع الدراسة .
وقد يسهل عليه التدليل فيما إذا صرح الكاتب نفسه بذلك كما فعل " هوجو "  في تصريحه بمحاكاة " شكسبيروقد يصعب الدليل كما في حالة محاكاة شوقي لشكسبير وديرن " وغيرهما في مسرحيته " مصرع كليوباترا ".
3-        أن يحدد مدى تأثر الكاتب بالجنس الأدبي المراد درسه، وعوامل هذا التأثر، فيبين ما إذا كان الكاتب خاضعاً لمذهب أدبي بعينه، أو ما إذا كان حراً في اختياره، وما مدى تصرفه في قواعد المدرسة  التى يتبعها، وما الأسباب التى جعلته يبعد كثيراً أو قليلاً عن النموذج الذي أراد إتباعه . 
ولأجل النفوذ إلى هذه الأسباب يجب أن تدرس حياة الشاعر، والمجتمع الذى نشأة فيه، وثقافته الخاصة به.
فهذه الدراسات إذن تتطلب تحليلاً دقيقاً للمؤلفات التى يراد درسها وإلماماً بالحالة الاجتماعية والأدبية في عصرها، ثم بالحالة النفسية للكاتب الذي هو موضوع الدراسة، ثم وقوفاً دقيقاً على ثقافة الكاتب وسعة إطلاعه، لتكشف تلك الدراسة بعد ذلك عن الأصالة الفنية والواقعية في إنتاجه.

المحاضرة السابعة
ميدان البحث في الأدب المقارن
تأثير كاتب ما في أدب أمة أخرى :
هذا النوع من الأدب المقارن هو أكثر فروعه انتشارا لوضوح منهج البحث فيه وللوثوق من الوصول فيه إلى نتائج تتناسب وما يبذله الباحث من جهد، وهو يتطلب مع ذلك سعة إطلاع ودقة في التحليل وصبراً في البحث وذكاءً في فهم النصوص، كما يتبين ذلك من معرفة الأسس الآتية :
1-                        يجب تحديد نقطة البدء في التأثير من مؤلفات كاتب ما أو كتاب واحد منها أو من شخصية ذلك الكاتب بوصفه وحدة لا تتجزأ مع مؤلفاته، ومثال ذلك، تأثير مسرحيات شكسبير أو تأثير هاملت منها أو تأثير " جوتيه ".
2-                        يجب تحديد الوسط المتأثر بلداً كانت أم مجموعة مؤلفين مثال ذلك تأثير الكاتب الفرنسي " جى دى موباسان "في القصة المصرية القصيرة .
أو في مؤلفي القصة القصيرة العربية في القرن العشرين أو في محمد تيمور فقط  .
3-                        يجب التمييز بين حظ الكاتب في ذيوعه وانتشار مؤلفاته، وبين حظه في محاكاته والتأثر به ، فقد يكون الكاتب ذا حظ عظيم في ذيوع مؤلفاته وترجماتها ، ولكنه مع ذلك ذو حظ أقل من جهة محاكاته والتأثير به ثم إن هناك أنواعاً كثيرة من التأثير فهناك التأثير الشخصي كتأثير " أرسطو " في اصحاب المذهب الرومانتيكي ، وتأثير لافونتين في القصة العربية على لسان الحيوان ، ثم التأثير الفكري ، كتأثير الأدب الاسباني في الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر مثلاً ، وتأثير الشعر الغنائي العربي في المدح في الأدب الفارسي .
إذا أخذنا كاتباً ما لندرسه دراسة مقارنة ، وبحثنا عن مصادره التى استقى منها أدبه في لغة أو لغات أخرى فإنا نكون بذلك في منطقة من مناطق الأدب المقارن - ومظاهر تأثر الكاتب في هذه الناحية متعدد النواحي ، من ذلك تأثره بمناظر البلاد الأخرى وعاداتها، وهو ما يتطلب دراسة للبلاد المؤثرة من تلك الناحية ،  ومن ذلك محادثاته مع رجالها وهذا ما يصعب الوقوف عليه أحيانا ً.
ثم من ذلك قراءته المختلفة في الآداب الأخرى، ويجب إلا يفوت الباحث التفريق بين التأثير وبين مجرد توارد الخواطر وتلاقي الأفكار، وكثيراً ما ينتهى البحث في هذا الميدان إلى شرح المصادر دون استطاعة استيفاء شرح آثارها في مؤلفات الكاتب .
دراسة التيارات الفكرية :
ويقصد بها دراسة التيارات الفكرية التى تسود عصراً ما أو حركة معينة من حركات الأدب، كالتيارات الفكرية في القرن الثامن عشر في أوربا .
وكالفلسفة العاطفية والصوفية في الأدبين العربي والفارسي ، وكفلسفة الواقعية بين مختلف الآداب وهذه الدراسات لابد من أن تدرس في أكثر من أدبين حتى يستطاع تمييز الأفكار العامة التى سادت عصراً بعينه أو بلاداً بذاتها، وهنا كثيراً ما يشتبه التأثر بتوارد الخواطر وبالأفكار الفردية التى تتشابه ، لأنها وليدة حوادث متشابه، وكل ذلك أمر هام لدراسة الأدب المقارن.

دراسة بلد ما كما يصوره أدب أمة أخرى :
لكل شعب من الشعوب رأيه في الشعوب الاخرى ولهذا الرأي صدى في أدبها الذي هو سجل شعور الأمة، وصورة صادقة لما عليه علاقاتها بغيرها من الأمم، ولمعرفة هذا يتحتم علينا دراسة أدب الرحلات والقصص والمسرحيات .
وهذا النوع من أنواع الأدب المقارن يشمل :
1-       دراسة أدب ما كما يصوره أدب آخر ، مثال ذلك : صورة إنجلترا في الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، وكذا صورة أسبانيا في الأدب العربي منذ الفتح الإسلامي . 
ومثل هذه الدراسات تساعد على فهم الشعوب بعضها لبعض فهماً صحيحاً مما يؤدى إلى حسن التفاهم بينها، وتأثير صلتها بعضها ببعض .
2-       دراسة بلد كما يصوره مؤلف ما من أمة أخرى: ومثال ذلك صورة أسبانيا في شعر شوقي ، وكذا صورة مصر في مؤلفات (جيرار دى تر فال) .


المحاضرة الثامنة
عالمية الأدب
تعنى عالمية الأدب خروجه من نطاق اللغة التى كتب بها إلى أدب لغة أو أدب لغات أخرى، وهذه العالمية ظاهرة عامة بين الآداب في عصور معينة، ويتطلبها الأدب المتأثر في بعض العصور بسبب عوامل خاصة تدفعه إلى الخروج من حدود قوميته إما للتأثير في الآداب الأخرى، وإما نشداناً لما به يغنى ويكمل ويساير ركب الأدب العالمي . 
ومن نتائج هذه العالمية حدوث تغيير شامل في عالم الفكر والأدب وعالمية الأدب في هذا المعنى الذي شرحناه لها أسسها العامة التى تحدد سيرها، فمن هذه الأسس :
1-        اختيار الادب المتأثر من الآداب الأخرى
على حسب حاجته، ينشد في هذا الاختيار دوافع نهضته وتقدمه، فيجب أن يكون الباعث الأول على هذا الاختيار هو الحرص على توفير عوامل النهوض للأدب القومي لألا يقف معزولاً منطوياً على نفسه، متخلفاً عن أداء رسالته .
فإن أصالة اللغة القومية وتقاليدها الموروثة وإمكانيات أهلها الفكرية والاجتماعية وطاقاتها الفنية في التعبير والسياسة  تقف بمثابة حراس أمناء وموانع حصينة لكى لا ينحرف هذا الاختيار عن عاديه خوفاً من أن تمحى الحدود القومية أو خصائص العبقرية اللغوية للأدب المتأثر وهي التى يراد إكمالها وإغناؤها بهذا الاكتمال .
وكل كاتب يشتط في هذا الاختيار والاقتباس فيطغى على أصول اللغة وتراثها يتعرض لخطر قطع علاقاته – لا مع قرائه وجمهوره فحسب – بل مع روح اللغة  القومية وإمكانياتها فى التعبير  ولهذا كان لابد في هذا الاختيار والاقتباس من أمناء قد تعمقوا في دراسة أدبهم وطوعوا لغتهم بالإطلاع والوعى والتحصيل.
ولم يقل أحد من دعاة التجديد بإهمال هذا الشرط الجوهري، عند محاولة الإفادة من الآداب الأخرى متى دعت حاجة الأدب القومي إليها . 
فإذا حدث أن أغفل الكتاب المتأثرون ما يجب عليهم من إكمال ثقافتهم الأدبية في لغتهم وانغمسوا مع ذلك في الآداب التى يعجبون بها فإنهم يخرجون على جمهورهم برطانة لا تغنى، وتفقدهم لغتهم القومية، كما يفقدهم أدبها، فيكونون كمن يريد أن يرتوى من نهر فيغرق فيه .
2-        الأصالة
فمحور التأثر في الأدب أو الإفادة من الآداب الأخرى هو الأصالة، أصالة الأفراد القومية، وبها تتحقق المحاكاة الرشيدة المثمرة، والخطر كل الخطر في التقليد الأعمى.
وعلاقة المتأثر أو المحاكي ليست علاقة التابع بالمتبوع ولا علاقة الخاضع المسود بسيده بل علاقة المستهدى بنماذج فنية أو فكرية يطبعها بطابعه ويطغى عليها صبغة قومية.
هذه هي الأصالة الحق، فالأصالة ليست بقاء المرء في حدود ذاته وليست هي إباء التجاوب مع العالم الخارجي وإنما هي القدرة على الإفادة من مظان الإفادة الخارجية عن نطاق الذات حتى يتسنى الإرتقاء بالذات عن طريق تنمية إمكاناتها، ولا يستطيع امرئ أن يصقل ذاته إلا بجلاء ذهنه بأفكار الآخرين وبالأخذ المفيد من آرائهم ودعواتهم .
3-        الصفوة من ذوى المواهب
وهذه الدعوات تتوجه إلى الصفوة من ذوى المواهب الذين يخرجون من نطاق أدبهم تلبية لحاجاتهم الفكرية والفنية، أينما وجدت وهم يتبعون عادة روح الحركة الفنية والفكرية واتجاهها العام، وقد يرون في عيون الأدب الأخرى ما لم يرى مؤلفوها أنفسهم؛  لأنهم ينمون بها مواهبهم واستعداداتهم.
فمثلاً الشاعر الفارسي عمر الخيام المتوفى في أواخر الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادى كان قد عبر في رباعياته المشهورة عن ضيقه بهذا العالم تعبيراً حراً من القيود العامة، ولكنه تعبير يشف عن أسى المفكر وتشاؤم الفيلسوف، وشعور الفنان المرهف، ولم تلق رباعياته حظوة لدى المعاصرين من مواطنيه وكانت شهرته عند الفرس مقصورة على مكانته العلمية، وقد رأى كتاب القرن التاسع عشر الأوربي وشعراؤه في تلك الرباعيات تعبيراً عن روح عصرهم إذ كان الصراع في عصرهم قد بلغ أشده بين العلم في حقائقه المادية وبين المثالية المبنية على أسس خلقية ودينية غير ثابتة .
وأصبحت للخيام " منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حظوة فاقت كثيراً ما كانت لديه من منزله بين مواطنيه، ويرجع الفضل في ذلك إلى الشاعر الإنجليزيى فتزجرالد 1709-1883م " الذى إقتدى في مقطوعاته برباعيات الخيام، فقد غير الشاعر الإنجليزي ونقل وزاد في الاصل الفارسي بحيث لم تعد ترجمته وفيه للاصل وإن بدت جميلة رائعة .
وبهذا التصرف امتدت خواطر الخيام وآراؤه في العالم العربي كله ولقيت رواجاً لم تظفر به في وطنها الأصلي بل أنها أثرت بعد هذا الزواج في مواطني الخيام فقدروها أكثر مما كانوا يقدرون .
إن عالمية الأدب هذه تجعلنا ننظر إلى أدبنا القومي نظرة أعم وأعمق ، إذ نعده أدباً بين الآداب العالمية المختلفة الأخرى يغنى بصلاته بها وينج المفيد من مناهجها .
فالآثار الأدبية العالمية  تؤلف وحدة قياس الإنتاج الأدبي الحديث بنسبته إليها، فأدبنا الحديث يجب أن يقوم لا على أساس أدبنا القومي في ماضيه فحسب  بل على أنه لبنة في ذلك البناء العالمي الشامل، وبذلك يكون  اكتشاف الآداب الكبرى والارتواء من مناهلها في القديم والحديث من اسباب تقدم أدبنا ومن بواعث تعديل نظرتنا إلى أدبنا القومي .
فالأدب الجديد – إذا كان جديداً عبقرياً – يضيف  طريقاً إلى الآداب كلها ويسمو بنظرتنا إلى الأدب جملة ويجعلنا نقدم أدبنا القديم تقويماً آخر بالنسبة إلى هذا الأدب الجديد .
وقد نهض الأدب العربي القديم في العصر العباسي واستجدت فيه أجناس أدبية وصور فنية وموضوعات شتى وذلك بتأثره بالأدب الإيراني والهندي  عن طريق الفارسية، ثم بتأثره بالفكر اليوناني .
ونهضتنا الأدبية الحديثة ترجع في أصولها العميقة إلى موارد من الأدب الغربي بحيث لا يستطيع الناقد أن يخطو فيه خطوة، ما لم يكن على صلة وثيقة بالآداب الغربية وتيارات نقدها .
وتاريخ الآداب العالمية يثبت أن عصور الإنحطاط فيها هي العصور التي انطوت فيها الآداب القومية على نفسها فلاكت معانيها واجترتها حتى بليت وسمجت، فملها كتابها وقراؤها معاً .

** العوامل العامة لعالمية الأدب :
نقصد بالعوامل العامة تلك التى تكون سبباً في وجود العالمية، ولكنها ليست عوامل فنية ، بل هي : شعور ذوى المواهب الناضجة بنقص الأدب القومي وعدم كفايته لحاجات العصر، والهجرات، والحروب، والغزو، ثم وسائل المدنية الحديثة لنشر الثقافاتونجمل الآن القول في كل عامل من هذه العوامل :
1-           شعور ذوى المواهب الرشيدة بعدم كفاية أدبهم القومي للاستجابة لحاجات عصرهم
2-           الهجرات
3-           الغزو
4-           الحروب بين الشعوب والدول
** شعور ذوى المواهب الرشيدة بعدم كفاية أدبهم القومي للاستجابة  لحاجات عصرهم :
وهذه هي نقطة البدء في التأثير والتجديد وهى تمثل ملال الكتاب والشعراء للمعروف من تقاليد أدبهم وصوره الفنية، وهذه الملال هي سبب خروج هؤلاء الكتاب والشعراء من نطاق أدبهم القومي طلباً للجديد من الآداب الأخرى، ويتمثل هذا الخروج في شبه ثورة على القديم وحرص على إكماله في وقت معاً . 
يقول " جوتيه " : " ينتهى كل أدب إلى الضيق بذات نفسه إذا لم تأت إليه نفائس الآداب الأخرى لتجدد الخلق في ديباجته .
ويدعو المجددون إلى الإفادة من هذه النفائس وذلك بإعادة النظر في قيمة تراثهم الأدبي على ضوء جديد، وفي إثر ذلك تقوم – عادة – المعركة المؤلفة في كل عصر حتى ناهض بين أولئك المجددين ودعاة المحافظة على القديم .
وهذه هي معركة الأجيال بين القديم والجديد وفيها يزعم دعاة الوقوف عند القديم أن في الجديد خطراً على الموروث من أدبهم وقضاء على تقاليدهم، ويفرقون بين الآداب وغيرها من الأشياء فيرون أن التبادل بين العلوم  الدولية أو الموضوعات أو المواد التجارية من شأنه أن يفيد، أما الآداب والفنون فهي وطنية محضة وفي نقلها قضاء عليها وخطر على قومية من تنقل إليهم، وبالطبع فإن هذا الرأي غير صائب؛ فقد أثبتت تواريخ الآداب كلها أن عصور نهضاتها هي التى ستنطلق  فيها طالبة المزيد والفناء في غيرها .
إن طبيعة كل أدب وفي خصائص أهله وتقاليدهم ما يقوم بمثابة حواجز تنفي ما لا يتفق من هذه التيارات طاقتها الفنية والحيوية، فنحن مثلاً لم ننهج مذهباً أدبياً من المذاهب الغربية بمبادئه  كلها بل اخترنا من هذه المذاهب جميعاً بعض ما نستطيع أخذه لنكمل به أدبنا، وقد تأثرنا بالكلاسيكية أولاً فأخذنا عنها دون غيرها من المذاهب وعلى الرغم من أنها قد ماتت في الآداب الأوربية حين بدأت نهضتنا ، وذلك لأنها كانت تتفق في ذلك الوقت مع القائم من تقاليدنا والثابت المرئى من أفكارنا ونظمنا . 
فالقومية والوطنية كلاهما بمثابة مصفاة في ما يخص مواطن التأثير والتأثر بين الآداب ومن الخطر إنكار الجديد لأنه جديد بل تبرير الحملة عليه بحجج أخرى كالنزعة الي الجدة لذات الجدة، أو لمجرد أنها أسهل وأيسر.
على أن الدعوة إلى الجديد تظل دائماً  إمارة من إمارات الحياة وفيها تظهر الحماسة وتتجلى فيها الحاجة إلى بذل الجهد والتنافس في الإجادة فهى حيوية جياشة .
** الهجرات :
كانت الهجرات في القديم تنتج عادة من اضطرابات طبيعية أو سياسية تنتقل بسببها جماعة من بلد إلى بلد فتؤثر في أدب البلد التى انتقلت إليه وتفكيرهم، فالإيرانيون الذين هاجروا في الي الجاهلية إلى قلب الجزيرة العربية أثروا في لغة أهل المدينة منن ناحية الألفاظ ناحية الألفاظ والمفردات العربية، وكذلك الجاليات الإيرانية ذات الأثر الفكري والأدبي في البصرة بعد الإسلام وبخاصة في عهد العباسيين .
وما التجديد في أدب العرب المهاجرين في أميركا إلى صورة حديثة من أثر الهجرات .
 وأقدم الآثار الأدبية للشعوب الهندية الأوربية قد كانت ثمرة هجرات شعوب نزلوا إقليم (البنجاب) .
** الحروب بين الشعوب والدول :

والحروب المدمرة المشئومة قد تكون طيبة الأثر من جهة الإخصاب العقلي بإتاحة فرص التأثير والتأثر بين الآداب .
وهذه هي الحروب الصليبية العمياء المتعصبة قد فتحت عيون ذوى البصيرة في الغرب على مجالات نشاط فكري وأدبي في الأنصوصات الشعبية لأدب فرنسا في العصور الوسطى .
 ومن نتيجة هذه الحروب أيضاً تاثير الحياة العاطفية العربية في شعر " التروبادور" على يد من اشتركوا من شعراء فرنسا أيضاً.
** الغزو :

الغزو الذي يأتى عادة نتيجة للحروب وقد يمهد للهجرات وييسر سبيلها ولكنه مع ذلك عامل مستقل أقوى أثراً وأعظم خطراً . 
فقد قامت بين العرب والفرس صلات الجوار والهجرات ولكنها  ظلت محدودة الأثر حتى كان الفتح الإسلامي الذي مهدن الفتح الإسلامي الذي مهد لتأثير عميق تغيرت به الروح الإيرانية في كثير من خصائصها الفكرية والأدبية العقدية .
ولكن عامل الغزو هذا لم يعد ذا أثر فعال في العصر الحاضر، والتأثير الأدبي في العصور الحديثة أصبح يظهر فردياً في مبدئه ، وذلك إن أجهزة الثقافة الحديثة وسرعة انتشارها أوجدت نوعا من التنافس العلمي، وهذا التنافس يظهر في صورة تجاوب بين ميول الأفراد ومواهبهم في الأدب القومي من جهة، وبين المصادر التي يمكن أن تغذي هذه الميول والمواهب في الآداب الأخرى .
وأجهزة الثقافة هذه تدور حول الكتب وما في حكمها من صحف ومجلات ومواد أدبية .

** العوامل الخاصة لعالمية الأدب :
هذه العوامل أقرب إلى جوهر الأدب المقارن من العوامل العامة السابقة وتتطلب من الباحث مقدرة خاصة على جلاء طابعها الفني المتصل اتصالاً مباشراً بتجديد التأثير والتأثر بين الآداب . 
ويمكن أن نجعل هذه العوامل في :
1-                        الكتب
2-                        دراسة الترجمة بين الأدبيين
** الكتب :
لدراسة الكتب بوصفها وسيلة من وسائل تأثير أدب أهمية كبيرة في تحديد طرف هذا التأثير وبيان وجهته وتظهر هذه الأهمية في النواحي التالية :
الإلمام بالمعارف التى تعرفها أمة عن أمة أرى مع شرح لما قد يكون لها من دلالات أدبية أو اجتماعية وهذه هي نقطة البدء في البحوث المقارنة، ومثل هذا ما نجده في علاقة الأدب العربي بالأدب الفارسي، وهو ما نجي علاقة الأدب العربي بالأدب الفارسي، وهو ما نجده في الكتب العربية من إشارات متفرقة للغة الفرس وأغانيهم وأشعارهم الشعبية وبخاصة فيما بين الفتح العربي لإيران وبين أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وهو العهد الذي قامت فيه اللغة الفارسية الحديثة بوصفها لغة الأدب الإيراني .

في تلك الفترة لو تتبعنا معارف العرب من لغة إيران لوقفنا على معارف قيمة من دور اللغة الإيرانية وعمق الصلات اللغوية الأدبية بين هاتين الأمتين منذ القديم، وسنضرب بعض الأمثلة لنواحي هذا التأثر فمن ذلك ما في كتاب " المحاسن والأضداد " المنسوب إلى الجاحظ إذ يقول: " ووقع عبد الله بن طاهر من سعى رعى، ومن لزم المنام رأى الأحلام " ثم يعقب المؤلف على ذلك بقوله: " هذا المعنى سرقة من توقيعات أنو شروان فإنه يقول " هركة جرذ خواب،  وهركة خسيد خرابيند " فلهذا الخبر دلالة أدبية على أصل جنس التوقيعات المألوفة عند حكام العرب .
ومن ذلك ما يحكيه الطبري وأبو الفرج الأصفهاني من أن الشاعر العربي يزيد بن مفرع كان قد غضب عليه عبد الله بن زياد أمير البصرة في عهد يزيد بن معاوية فأمر أن يطاف به الشوارع والأسواق وسار الأطفال في إثره يقولون: " أو قال ذلك أهل الفرس على حسب الطبرى ": " أين شيست؟ أين شيست ؟ " أين شيست؟ أينجيست؟ ما هذا ما هذا؟ وإذ ذلك أجاب هذا الشاعر بالفارسية؟
آبست ونبيذ أست       عصارات ذبيب أست
سميه روسبى أست
وهذا الشعر معناه: " هو ماء ونبيذ، عصارة زبيب، سمية (وهى جدة بن زياد) عاهر".
وهذا الخبر دليل على انتشار لهجة إيران في ذلك الوقت بين العرب، وقد بلغ من معرفة العرب للغة الفرس أن شعراء العرب كانوا يتملحون  بألفاظ من الكلام الفارسي في أشعارهم وذلك كما في قول العماني للرشيد في أرجوزته التى مدحه فيها  على حسب ما رواه الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ".
من يلقه من بطل مسرندى         في زعقة محكمة بالسرد
حول بين رأسه والكرد
فمسرندى تعنى: معتلى، والزعقة: الدرع، والكرد: أهل الصف.
هذا إلى ما استعاره العرب من الفرس من كلمات منذ الجاهلية وما يدل على سعة أفق العرب ومرونتهم وحرصهم على إغناء لغتهم بما يعوزها من كلمات مدنية وإدارية كان الفرس قد سبقوهم إلى معانيها مثل هذه الكلمات: وزير، خراج، بريد، صولجان ... وهى كلمات تتصل بالسياسة والإدارة، ثم مثل هذه الكلمات التى تدل على مظاهر المدنية في اللباس والطعام :الخوان، الديباج، الخز، الإستبرقيروز، ال، الإبريق، الفالوذج .
وعلى العكس من ذلك نجد الإيرانيين قد استعاروا من العرب كلمة " مله " وهى في اللغة العربية معناه الشريعة أو الدين . 
حيث أصبح لها فى اللغة الفارسية معنى " الحكومة " أو الشعب فيقال مثلاً:  " ملت إيران " أي الشعب أو الأمة الإيرانية ، وكذا كلمة " بسمل " وهى اختصار كلمة " بسم الله " صار معناها حين انتقلت إلى الفارسية " الحيوان المذبوح (بعد إطلاق اسم الله عليه للتذكية) ومنها أتى لفظ (بسملكا) لمكان الذبح .

** دراسة الترجمة بين الأدبيين :
لدى  دراسة التراجمة أهمية خاصة لدى الباحثين في الأدب المقارن، إذ هى معرفة ما لاقى الكتاب والشعراء من حظوة لدى الشعوب التى ترجمت لها كتبها، وبها يعرف مدى تأثر الكتاب الآخرين بهم في تلك الشعوب وقد بلغ من شهرة بعض كتاب إن لاقوا نجاحاً في غير لغتهم أكثر مما لاقوا لدى أبناء أدبهم من معاصريهم، أمثال الخيام " .
ولدراسة الترجمة أهمية أخرى هى الوقوف على أذواق كل عصر وبيان اتجاهاته العامة فقد لوحظ مثلاً شكسبير" لم يلق نجاحاً لدى معاصريه من الأوربيين ولا لدى من جاءوا بعدهم بقدر ما لاقى في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بعد أن اكتشفه فولتير ".
وقد تكون الترجمة سببا في نشر أذواق أدبية خاصة من لغة إلى لغة فقد لقيت الترجمة من العربية إلى الفارسية  دوراً كبيراً في تطوير النثر الفارسي فكانت ترجمة تاريخ الطبرى على يد الوزير " السامانى " أقدم ما وصل إلينا من نثر تلك اللغة، وكانت مثالاً يحتذى به لسلاستها وسلامة أسلوبها . 
وبدأ النثر الفارسي الفني بترجمة كتاب " كليلة ودمنة " من العربية إلى الفارسية الحديثة.
ويجب الانتباه – هنا – إلى الاختلاف بين الأصل والترجمة، فلهذا الاختلاف معناه وسببه من اختلاف ذوق العصر أو ذوق الأمة التى ترجم لها ومن اختلاف أغراض المترجمين الاجتماعية أو الفردية فيلاحظ مثلاً الاختلاف الكبير بين " كليلة ودمنة " لابن المقفع، وبين ترجمته إلى الفارسية الحديثة على يد أبى المعالى نصر الله بن محمد، ففي الثاني إطناب وسجع وصيغة إسلامية واضحة، مع الإكثار من الاستشهاد بالشعر والحكم العربية، مع كثرة الاستعارات وتصنع الأسلوب.
وفي العصور الحديثة تفضل الترجمة الوفية للأصل وينبغي أن تكون جميلة الأداء، فالترجمة الوفية غير الجميلة تفقد قيمتها الأدبية قليلاً أو كثيراً على حسب حالتها، أما الترجمة غير الجميلة وغير الوفية، فلا قيمة لها بصفة عامة .

وقد يكشف الاختلاف بين الترجمة والأصل من اختلاف بين الشعوب في التقاليد الاجتماعية فمثلاً حين ترجمت مسرحية " عطيل " لشكسبير إلى اللغة الفرنسية لكي يذكر بها منديل "ديدمونا " الذي ساقه الضابط "ياجو" دليلاً على خيانتها، استبدلت به في الترجمة إسورة، ثم" شال " ثم " عصابة " ثم خصلة من شعر قبل أن يعود أخيراً في " الفريد دى فيننى " منديلاً كما هو في الأصل ، وذلك لأن التقاليد الإجتماعية القاسية أيام الكلاسيكيين ذوى الذوق  المرهف لم  تكن تسمح للفرنسيين بعرض منديل امرأة على مسرح .
* العوامل الخاصة لعالمية الأدب :
فكل ذلك كان من العوامل الخاصة التي ساعدت على انتشار الآداب المختلفة مما جعلها عالمية , ونهدف من ذلك إلى التعرف على دور تلك العوامل في ( عولمة ) الأدب , وكيفية انتقاله من لغة إلى أخرى , ومن قومية إلى أخرى .
** كتب النقد والصحف والمجلات:
لا يمكن أن يكمل بحث في صلات الآداب بعضها ببعض ما لم يتم الاستيعاب لكتب النقد والصحف والمجلات وتحليل ما بها من آراء وفهم ما تحتوى عليه من إثارات وتحديد ما ترسم من اتجاهات .
وقد لا نجد في كتبنا ومجلاتنا العربية ماله له صلة مباشرة بالأدب المقارن إذ مثل هذه البحوث لم ينضج عندنا حتى اليوم ولكن الاطلاع عليها ضرورى في تحديد اتجاهات العصر وما قد يسودها من تيارات أدبية وأجنبية . 
فعلى من يريد تأثير الآداب الأوربية في أدبنا الحديث أن يرجع إلى المجلات والصحف بوصفها أساساً هاماً لدراساتهم . 
وقد وجدت في البلاد الأخرى مجلات خاصة بالبحث في الآداب الأجنبية وصلاتها بالأدب القومي، مثل المجلة الإنجليزية English Review من عام (1825-1840) .
**أدب الرحلات:
يفسح الأدب المقارن مجالاً واسعاً لدراسة أدب الرحلات لأنها المعين الذي يستقى منه أهل الأمة معلوماتهم عن الأمم الأخرى ، والصورة التى يرسمها أدب الرحلات لأية أمة هي التى تنعكس في قصص الكتاب وفي مسرحيات المؤلفين بل وفي عقول الساسة والمفكرين .
**رجال الأدب من مترجمين ووسطاء:
وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق، ولكن نشير هنا إلى أن المترجم إذا كانت له مكانة أدبية خاصة وجب أن نقوم بدراسته لنبين تاثيره هو بالإضافة إلى تأثير ما ترجم، وكذلك الوسطاء في الأدب .
ومن العوامل الخاصة – أيضاً – لعالمية الأدب تلك المجتمعات والنوادي الأدبية التى كانت خير منفذ للتيارات الأجنبية، وخير مشجع للتأثر بها، فقد كان يقام في بلاط الحكام في إيران ملتقي العلماء والأدباء ممن يعرفون العربية والفرنسية فكانوا يناقشون فيها القضايا والمسائل الأدبية التى تخص آداب هاتين اللغتين، وكانوا ولوعين برؤية عيون المؤلفات العربية مترجمة إلى الفارسية، فكان فى ذلك تشجيع للمترجمين وقد ذكر أبو المعالي نصر الله مترجم " كليلة ودمنة " من العربية إلى الفارسية الحديثة أنه تم له ذلك بفضل التشجيع والنصائح التى ظفر بها في تلك المجتمعات.
هذه هى أهم عوامل إنتشار الأدب بين الشعوب ونسبة لأهميتها يتحتم دراستها دراسة دقيقة تمهيداً لدراسة الفروع الأخرى التى هي من صميم الأدب المقارن . ونأخذ الآن في دراسة مناهج الأدب المقارن في بحوثها .
المحاضرة التاسعة
الأجناس الأدبية:
منذ كان نقاد الأدب اليوناني وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو لا يزال النقاد في الآداب المختلفة على مر العصور ينظرون إلى الأدب بوصفه أجناساً أدبية أي قوالب عامة فنية تختلف فيما بينها لا على حسب مؤلفيها أو عصورها أو سكانها أو لغاتها فحسب ولكن كذلك على حسب لغتها الفنية وما تستلزمه من طابع عام ومن صور تتعلق بالشخصيات الأدبية أو بالصناعة التعبيرية الجزئية التى ينبغي ألا تقوم إلى في ظل  الوحدة الفنية للجنس الأدبي، وهذا واضح كل الوضوح في القصة والمسرحية والشعر الغنائي بوصفها أجناساً يتوحد كل جنس فيها على حسب خصائصه مهما اختلفت اللغات والآداب والعصور التي ينتمي إليها .

إن الأجناس الأدبية لها طابع عام وأسس فنية بها يتوحد كل جنس أدبي في ذاته ويتميز عما سواه، بحيث يفرض كل جنس أدبي نفسه بهذه الخصائص على كل كاتب يعالج فيه موضوعه مهما كانت أصالته، ومهما بلغت مكانته من التجديد . 
ولا يستغني عن الأصالة بهذه الخصائص الفنية كاتب ولا ناقد من النقاد، ففكرة الجنس الأدبي فكرة تنظيم منهجي لا يمكن أن تنفصل عن النقد .
وأول من اعتدوا في تميز الأجناس  الأدبية تراعي خصائص مختلفة فبعض هذه الخصائص يرجع إلى الشكل من إيقاع ووزن وقافية ومن البنية الخاصة في ترتيب أحداث العمل الفني (الوحدة العضوية) ومن حجم هذا العمل وطوله وقصره كما في القصيدة والمسرحية  والقصة ، ثم من الزمن الذي يشغله هذا العمل الفني . 
وبعض هذه الخصائص يرجع إلى المضمون في صلته بالصياغة الفنية؛ فأشخاص المأساة عند " أرسطو " وعند الكلاسيكيين من الملوك والنبلاء والأبطال، على حين موضوع " الملهاة " هم الأشخاص العاديون . 
وكذلك كان يراعى عند الكلاسيكيين وحدة الشعور المثار في الجنس الأدبي، فالضحك للملهاة، والخوف والرحمة في المأساة .
وأما في العصر الحديث فقد تغيرت النظرة إلى هذه الأجناس الأدبية فأصبحت دراستها ذات طابع وصفى، فليس هي بأوامر عملية فنية مرسومة لدى المؤلفين ولكنها شروح وتعليل لا يحددان العمل الفني تحديداً تحكمياً . 
وفي هذه النظرة الوصفية العلمية يمكن أن يختلط جنس أدبي بجنس أدبي آخر ليؤلف جنساً جديداً، فالأجناس الأدبية تمثل مجموعة من الاختراعات الفنية الجمالية يكون الكاتب على بينة منها لكنه قد يطوعها لأدبه أو يزيد فيها وهي دائماً معللة مشروحة لدى القارئ الناقد .
وقد تنشأ الأجناس الأدبية طبيعية في الآداب القومية دون استعانة في نشأتها بآداب أخرى ولكنها حين تنضج فنياً تستمد عادة أكثر عوامل نموها ونهضتها من الآداب الأخرى . 

فمثلاً وجدت القصيدة العربية في الأدب الجاهلي بطابعها التقليدي الموروث الذي لم تتوافر لها فيا وحدة الموضوع ولا الوحدة العضوية وإنما كان لها آنذاك نوع من وحدة الربط عن طريق التداعي النفسي في خواطر الجاهلي على حسب تجاربه في البادية فهو في طريقه إلى الممدوح يمر بأطلال ويبكى بها ذكرياته العزيزة، ثم يصف ناقته ورحلته عليها وما عاني أو رأي في طريقه ليصور ما بذل من جهد في شد الرحال إلى الممدوح ليظفر بالنوال منه .
ثم صار هذا الطابع تقليداً بعد أن فقد دواعيه البدوية التي كانت تبرره عند الجاهليين .
ولم يتغير نظام القصيدة العربية تغيراً فنياً عميقاً حتى العصر الحديث، وفيه تحركت القصيدة  في أدبنا المعاصر إلى تجربة فنية توافر لها الأصالة الفنية في تعبير الشاعر عما يشعر به أو يؤمن به في صور أصيلة غير تقليدية وفي وحدة فنية فيها تتمثل الصور حية عصرية . 
وقد أفدنا في ذلك من المذاهب الأدبية الحديثة منذ الرومانتيكيين بل أن البنية الفنية لإيقاع القصيدة ووزنها وقافيتها قد نالها تغير كبير في شعرنا المعاصر أخذنا أسسه الأولى من " الرمزية " ومزجناه في المضمون بالاتجاه الواقعي .
وفي هذا كله تلاقت في شعرنا الحديث تيارات عالمية فنية وفلسفية واجتماعية لابد للباحث أن يقف عندها ليميز الخيوط الدقيقة في نسجها الفني .
وقد ينشأ الجنس الأدبي في الأدب القومي بفضل تأثره بالآداب الأخرى مثل المسرحية ومثل القصة – في معناها الفني – في أدبنا العربي فقد نشأتا فيه وتطورتا واحتلتا مكانة تضاءلت بالنسبة لها مكانة الشعر الغنائي الذي كان يشغل جل ميدان الأدب العربي قبل العصر الحاضر.
ودراسة الأجناس الأدبية من هذا الجانب توقفنا على المصادر الفنية لأجناس أدبنا القومي، وتفتح آفاقاً فسيحة للنقد ثم الاقتداء والخلق والتوجيه الأدبي القومي وجه رشيدة .
ويتبع دراسة الأجناس الأدبية دراسة وصفية شاملة وذلك بأن نتعرض للصور الفنية المرتبطة إرتباطاً تاماً بالأجناس الأدبية ووحدتها وخصائصها . 
وما الأسس العامة للأجناس الأدبية إلا وسائل تصوير تتصل بوحدة العمل الفني، وتقوم مقام الحجة والإقناع في المنطق وبمقتضاها تحكم على وسائل التصوير أو الصياغة الجزئية في داخل الوحدة الفنية لكل جنس أدبي.
وإذا تتبعنا أشهر الأجناس الأدبية لندرسها في نواحيها المقارنة وجدناها قسمين:  قسم كان يعالج أصلاً في الشعر، وآخر يعالج أساساً في النثر . 
ومن القسم الأول :  الملحمة والمسرحية والقصة على لسان الحيوان، ومن الثاني القصة والتاريخ في طابعه الأدبي ، والحوار أو المناظرة، ونعالجها الآن مبتدئين بالأجناس الأدبية التى تعالج في أصلها شعراً.
الملحمة:
الملحمة هي قصة طويلة تحكى شعراً وتحتوى على أفعال عجيبة، أي على حوادث خارقة للعادة ، وفيها يتجاوز الوصف مع الحوار وصور الشخصيات والخطب ولكن الحكاية هي العنصر الذي يسيطر على ما سواه . 
وعلى أن هذه  الحكاية لا تخلو من الاستطرادات وعوارض الأحداث وفي هذه تفترق الملحمة عن المسرحية والقصة افتراقاً جوهرياً ، وذلك أن الملحمة  لم تزدهر إلا في عهود الشعوب القطرية حيث كان الناس يخلطون بين الحقيقة والخيال وبين الحكاية والتاريخ بل كانوا يهتمون بمغامرات  الخيال أكثر مما يهتمون بالواقع . 
على أن الخيال الجامح كان يعيش في وفاق تام مع العقل في ذلك العهد ، إذ أن سهولة الاعتقاد في ظل الحياة الفطرية كانت توفق بين العقل وبين ظهور الأرواح والجن وتدخل الملائكة أو الشياطين في شئون الناس فكانت أعجب حوادث أوديسا هوميروس" – مثلاً – مطابقة للتجارب التى يمكن أن يقوم بها ملاح يخوض البحار ويتعرض لعدائها وعواصفها، وهذا هو الذي صوغ مثل هذه العجائب في الملاحم عنصراً جوهرياً  فيها .

وللملحمة في إبطالها وحوادثها أصول تاريخية ولكنها تختلط بالأساطير والخرافات لذلك العهد الذي لم تقم فيه حدود فاصلة بين الحقائق والخيالات .
وفي الملاحم يتغنى الشعب بماضيه وعجائب  هذا الماضى على أنه الصورة المثلى التى يجلى فيها الشعب آماله  ومثله العليا  إرضاء لعقائده ونزعاته، والفرد هو محور هذه المثل والنزعات، أما الشعب فلا وزن له بجانب الأبطال في ذلك الشعر الإقطاعي، فهو يمثل التابعين لركب الأبطال ولا يذكر إلا في صدد شرح ضحايا الحرب التى يشنها البطل فيسحق بها من سواه من الطغام وهذا أوضح ما يكون في الملاحم الفطرية .
أما في الملاحم المسيحية فيبدو الشعب في صورته الطبيعية ولكن على أنه تابع يقوم برسالته الخاصة بعقيدته أو تجاه الأبطال من سادته .
وهؤلاء الأبطال  مصورون جسمياً أو نفسياً في صور بسيطة ساذجة قوية جافة وتغلب عليهم صفة ملازمة تظل بمثابة كنية لهم  .
ففي " إلياذة " هوميروس "تذكر دائماً " هيلين " ذات الحزام العميق، و" أخيليوس " ذو الأقدام السريعة الخطى، و " هكتور" ذو البيضة النحاسية الحمراء، ويقرب هؤلاء الأبطال من مصاف الآلهة كما ينزل الآلهة إلى منزلة الناس .
وقد انتقل هذا الجنس وخصائصه وطابعه السابق من الأدب اليوناني إلى الأدب اللاتيني ، فقد تأثر شاعر اللاتينيين "فرجيل " – 89-19ق.م في ملحمته التى عنوانها " الإنيادة "وهى محاكاة فنية دقيقة لأوديسا هوميروس وإلياذته .
ولكن " فرجيل " لا يرتفع إلى مستوى "هوميروس " لا من حيث الوحدة، ولا من حيث ترتيب الافعال وتقديم الحدث، ولا من حيث قوة التعبير وحرارة الصياغة .
المحاضرة العاشرة
تأثيرات إسلامية في الآداب العالمية الشعرية:
** ( تأثير حادثة الإسراء والمعراج في الكوميديا الإلهية لدانتي ) نموذجاً :
الكوميديا الإلهية هي ملحمة دينية ذات طابع رمزي إنساني, أنشأها الشاعر الإيطالي الخالد دانتيه ( 1265- 1331م ) وهي فريدة في نوعها .
وهى فريدة فى نوعها تخالف ما سبقها من الملاحم فهي دينية الطابع وموضوعها الرحلة إلى العالم الآخر يصف " دانته " فيها ما لا يرى ولكنه يقرب ذلك العالم من عالمنا في الشخصيات التى تسكنه وفى وصف أخلاقها إذ يرى فيه معاصريه وسابقيه من الناس وبخاصة مواطنيه الذين يعرفهم فى فضائلهم ورذائلهم، ولذلك نرى للملحمة طابعاً واقعياً يصف فيه " دانته " عالم العصور الوسطى، يسود ذلك كله طابع ذاتي بالنسبة للشاعر فى وصف بغضه للنقائض والرذائل الاجتماعية، وحبه للفضائل وسمو الخلق . 

وكان يقصد من وراء هذه الملحمة الى غايات " رمزية " أشار إليها في إهدائه لهذه الملحمة إلى صديقة حيث قال له في هذا الإهداء " يجب أن يعلم أن معنى هذا العمل الأدبي ليس بسيطاً ولكنه متعدد، فالمعنى الأول هو المعنى الحرفي والمعنى الآخر يختفى وراء الحروف  وهو المعنى الرمزى أو الخلقي، فموضوع هذا العمل فى معناه الرمزي يعالج فيه الشاعر جحيم هذا العالم الذي نجوبه كأننا مسافرون مع ما لدينا من قدرة بها نستحق الخير أو نحرمه، فموضوع هذا العمل الأدبي هو الإنسان بما فيه من فضائل أو رذائل بوصفه خاضعاً للعدل الإلهي المثيب المعاقب .
على الرغم من أصالة " دانته " في العصور الفنية الرائعة وفي وصف عالم العصور الوسطى ، وفي رمزيته العميقة المتعددة النواحي على الرغم من ذلك كله فقد تأثر في الكوميديا الإلهية بمصادر عربية وهذه ناحية تهمنا في دراستنا المقارنة العربية .
فقد نشر البحاثة الاسباني المستشرق " ميجل " (1871-1944م) مجلداً كبيراً في مدريد " يشرح فيه مصادر دانته "العربية في ملحمته الكوميديا الإلهية، وقد ظهرت الطبعة الثانية  من الكتاب 1944م ، وقد شرح  ذلك المستشرق كيف تأثر دانته تأثراً مباشراً بحكاية " الإسراء والمعراج " التى تمت بين المسلمين وزيد فيها كثيراً بناء على أحاديث موضوعه شرحت بها الآية الكريمة التى تصف إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم شرح ذلك المستشرق كيف أفاد " دانته " من مصادر عربية صوفية أخرى من أهمها " الفتوحات الملكية ، لمحي الدين بن العربي ".
وقد أثار هذا الكتاب عاصفة من الخلاف بين المتخصصين في أدب " دانته وكان من المتحمسين لهذا الاتجاه الجديد الفرنسي " أندريه بلسور " و" لويس جبيه " ومن ما قاله الكاتب الأخير بشأن كتاب المستشرق " ميجل " إنه أهم كتاب ألف في أدب " دانته " حيث قدمنا خطوة في التعرف على الشاعر .
وقد أبدى بعض المستشرقين الآخرين تحفظاً على هذه الآراء وظهر هذا التحفظ في رد تلك الأفكار التي اعتمد عليها القائلون بتأثرهم بقصة " الإسراء والمعراج " فقالوا إن ناحية هذا التأثر ضعيفة وأن " دانته " لم يكن يعرف العربية حتى أن يطلع على ذلك كله .
وقد قضى على كل معارضتهم في ذلك التأثر وزالت كل شبه أمام الباحثين بفضل عالمين مستشرقين: أحدهما إيطالي هو "تشيرولى " في بحثه الذي عنوانه كتاب المعراج ومسألة المصدر العربي الأسباني للكوميديا الإلهية، والمستشرق الثاني اسباني هو "مونيوس سندينو" في كتابه الذى عنوانه " معراج محمد " وقد قام هذان العالمان ببحوثهما كل على حدة ونشرا كتابيهما في وقت واحد تقريباً واتفقت نتائج بحوثهما كل على الرغم من أن أحدهما لم يتصل بالآخر، وقد اكتشفا مصدر " دانته " في "مخطوطة " أصلها عربي، وموضوعها " معراج الرسول " وقد ترجمت المخطوطة إلى الأسبانية ثم إلى الفرنسية واللاتينية بأمر من الملك " الفونس العاشر" وفي الكتابين السابقين نص المخطوطتين اللتين بقيتا في الإسراء والمعراج  أحدهما وهي باللغة الفرنسية القديمة في مكتبة " أكسفورد " والثانية وهي المخطوطة اللاتينية في المكتبة الأهلية بباريس .

كما أن هناك معلومات تاريخية تدل على أن نسخة من هاتين المخطوطتين كانت في مكتبة الفاتيكان . 
ثم أن سيطرة " الفونس العاشر " على دول الغرب جعلت كل جهوده العلمية تعم ممالك أوربا جميعاً على أنه من الثابت أن " دانته " كان كثير الإطلاع على ما يتاح له من جميع الثقافات الأخرى وغير ممكن ألا يطلع متبحر شره إلى المعرفة مثله على ما ترجم في أوربا من حضارة الإسلام في العصور الوسطي .
وفي الكوميديا الإلهية نفسها ما يثبت اطلاع " دانتيه " على الثقافة الإسلامية ومع أنه بقى العدو اللدود للإسلام إلا أنه لم يذكر ما يؤكد تقديره للفلسفة الإسلامية وفلاسفتها فقد أنزل بن سينا وابن رشد مع الحكماء الذين ساعدوا على تقدم الفكر الإنساني، ولكنهم حرموا نعمة العقيدة الصحيحة في رأيه فهم في أولى مراتب الجحيم حيث لا عذاب ولا دموع ولكن زفرات وحسرات فهما في " فرجيل " رمز العقل والحكمة الشعرية .
والحق أنه – على حسب المخطوطتين السابقتين في الإسراء والمعراج – يتجلى تأثر " دانته " بالأدب الإسلامي تأثراً لا مجال لأدنى شك فيه بحيث لا يمكن تفسيره بالصدفة أو توارد خواطر ، فمثلاً يصف " دانته الجحيم بأنه في أرض متوالية تحت هذه الأرض مملؤة ناراً وفي الدرك الأسفل منها الشيطان . وهذا مطابق لما في المخطوطة السابقة الذكر .
ثم أن مهمة من يصحبون الرسول في رحلته من الملائكة وهم في المخطوطة : جبرائيل وروفائيل ورضوان إنهم يشرحون للرسول ما يرى ويبينون له كل ما يثير في نفسه قلقاً  هى نفس مهمة من يصحبون " دانته " في ملحمته السابقة وهم " فرجيل " و " ماتيلد" و" بياتر يشه " ثم القديس " برناردو " وحسبنا أخبراً أن نذكر هذا التشابه العجيب بين المثول القدسي أمام الله في ملحمة " دانته " تتم فيها وراء السماوات ، إذ تتم في السماء الثامنة  حيث عرض الله تحيط به تسعة صفوف دائرية من الملائكة لا ينقطعون عن ذكر الله، وهنا لا يستطيع " دانته " الإبصار ويعترف بعجزه عن وصف الألوان والأنوار الرائعة التى كانت تكسى الملائكة . 
ولكن حيث يعجز بصره يشعر في قلبه بنوع من النشوة والراحة والروحية يغزو جوانب نفسه . 
هذا الوصف كان مبعث حيرة الباحثين عن مصادره من بين المتخصصين في أدب " دانته " ولكنه مطابق كل المطابقة لما في قصة المعراج على حسب المخطوطة المذكورة .
المحاضرة الحاديةعشر
المسرحية:
المسرحية بأنواعها المختلفة تفترق عن الملحمة والقصة معاً في أنها لا تعتمد على السرد أو الوصف بل على الحوار وهذا هو ما قصده " أرسطو " من قبل حين نص على أن محاكاة المسرحية للطبيعة إنما تتم عن طريق أشخاص يفعلون لا بواسطة الحكاية . 
والمسرحية جوهرها الحدث أو الفعل فأصل معنى كلمة " دراما " باليونانية هو الحدث أو الفعل ، ولذلك تبنى المسرحية على جملة أحداث يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً حيوياً أو عضوياً بحيث تسير في حلقات متابعة حتى تؤدى إلى نتيجة يتطلب الكمال الفني أن تؤخذ من نفس الأحداث السابقة، وهذه الأفعال أو الأحداث خارجية أو داخلية، فالخارجية هي التي تؤثر في الشخصيات والداخلية هي ما يأتيه الأشخاص في المسرحية بتجاوبهم مع الأحداث الخارجية أو نفورهم منها، وبعبارة أخرى الأحداث الداخلية هي : الصراع النفسي والمسلك الخلقي .
فالمسرحية في جوهرها أحداث متتابعة منظمة مترابطة ترابطاً وثيقاً مع مسلك الشخصيات بحيث تبرر هذا المسلك تبريراً مقنعاً .
إما الوصف فيستعان فيه بمنابر المسرح أو يستنتج من خلال الحوار.
ومن ناحية التطور ، نشأت المسرحية من الشعر الغنائي ، فالهجاء والتراشق بالشتائم كان فردياً ، ثم ارتقى فأصبح جمعياً يعالج فيه الشاعر مواطن النقص في جماعة ما، أو مثار الضحك في النقائص العامة وحين ذاك نشأت " الملهاة " فكانت الملهاة أعلى مقاماً من الهجاء، لأنها ذات طابع اجتماعي عام، ثم كان لها طابع ديني لأن أصلها يرجع في بدئه إلى أناشيد المرح والسرور التي يتغنى فيها اليونانيون في أعياد آلهتهم، وفي هذا الغناء  كانوا يمرحون مع النظارة ويسخرون منهم، وكان هؤلاء من الرجال وهم الذين يسمون " الجوقة " " الكورس ".
وكذلك " المأساة " كانت تطوراً عن أشعار المديح كما كان لها طابع ديني فهي ترجع في الأصل إلى أناشيد دينية غنائية، ثم اكتسبت تلك الأناشيد بالتدرج طابعاً مسرحياً.
وفي العصور الوسطى نشأت المسرحيات نشأة دينية أيضاً فكانت موضوعاتها مأخوذة من الإنجيل تحكى ميلاد عيسى – عليه السلام – أو صلبه، أو حكايات القديسين أو خروج " آدم " من الجنة أو قتل قابيل هابيل .
وفي عصر النهضة رجع الأوربيون إلى مسرحيات اليونانيين واللاتينيين في الموضوعات والأفكار والنواحي الفنية وبنوا عليها قواعد المذهب الكلاسيكي وساروا على ذلك النمط الكلاسيكي إلى أن قامت الرومانتيكية التي خالفت الكلاسيكية في كثير من القواعد الفنية الخاصة بالمسرحية؛ فلم تتقيد بضرورة توافر خمسة فصول لكل مسرحية، وقفت على وحدة الزمن والمكان من بين الوحدات الثلاث التي رعاها الكلاسيكيون وبقى الحدث وحرص الرومانتيكيون  كذلك على عرض الأحداث على المسرح بدلاً من حكاية كثيراً منها كما كانت عند الكلاسيكيين، ولم يراعوا الفصل بين الأجناس المسرحية بل خلطوا " المأساة " " بالملهاة " ليؤلفوا " الدراما " الرومانتيكية.
وإلى جوانب هذه النواحي الفنية العامة تغير موضوع المسرحيات ومضمونها فصارت شخصياتها شعبية ، وقضاياها اجتماعية أو نفسية إنسانية عامة، بعد أن كانت المأساة مقصورة على الأبطال الإلهيين في المسرح اليوناني، وعلى النبلاء والأرستقراطيين في الكلاسيكية .
وبعد الرومانتيكية تغير طابع المسرحيات الفني والاجتماعي تبعاً للمذاهب التي تلت الرومانتيكية من واقعية ورمزية ووجودية وواقعية واشتراكية .
ويلتحق بالمسرحيات في أجناسها المشار إليها سابقاً جنس أو ثانوي آخر هو المسرح الغنائي ، وهو مسرحية مأساة أو الملهاة "تؤلف للغناء، فقد ظهر فيها عجائب تفوق المعقول ، والحوار فيها قليل .
وقد نشأت هذه المسرحيات الغنائية في إيطاليا في أواخر القرن  السادس عشر.
ثم انتقلت إلى الآداب العالمية جميعاً.
وأهمية الدراسات المقارنة في هذا الجنس الغنائي أن الأدب العربي والآداب الشرقية قد غزته بموضوعات مختلفة فمن ذلك الموضوعات المأخوذة من " ألف ليلة وليلة " قد راجت المسرحيات الغنائية الأوربية ويظهر ذلك من عناوينها : علاء الدين والمصباح السحري" و " معروف إسكافي القاهرة " و هى غنائية لاهية ألفها " هنري رابو "، كالمسرحيات الغنائية التى موضوعاتها شخصية " شهر زاد ".
أما المسرحيات في أدبنا العربي فالحق أنها لم تتأثر لا في نشأتها ولا في نموها بشئ من المسرحيات الفرعونية – على فرض وجود تلك المسرحيات تاريخياً – فعلى فرض تمثيل الأساطير الدينية الفرعونية في القديم ليس لدينا دليل على أن المسرح عند القدماء المصريين قد تجاوز النطاق الديني إلى مسائل الإنسان ومشاكله على نحو ما كان من اليونانيون .
على إن من الثابت بعد ذلك أننا لم نرث شيئاً من ذلك التمثيل لنتأثر به في مسرحياتنا العربية ، إذ كانت قد انقطعت صلاتنا الدينية بمصر القديمة بانتشار المسيحية أولاً ثم الفتح العربي وانتشار الإسلام بعد ذلك .
ولم يعرف الأدب العربي القديم المسرحيات ولا فن التمثيل إذ ظل محصوراً في نطاق الشعر الغنائي وأدب الرسائل والخطب . 
وعلى الرغم من معرفة العرب آثار اليونان الفكرية، وعلى الرغم من ترجمتهم لكتب أرسطو فإنهم لم يحالوا اليونانيين في التمثيل ولا ترجمة شيئ من مسرحياتهم .
ولعل هذا هو أهم سبب من أسباب أخطاء العرب الكثيرة في ترجمتهم كتاب أرسطو " فن الشعر"  ولذا لم يتأثر به النقد العربي تأثراً كبيراً ولم ينصرف به عن العناية بالشعر الغنائي لا غيره من أجناس الأدب الموضوعية .
حقاً وجد في الأدب العربي حوار اتخذ عماداً لحكايات قصصية وأظهر ما يكون ذلك في فن " المقامة " ولكنه لم يقم أساساً لفن تمثيلي ، بل أن النقد العربي القديم لم يعن بهذا الجنس الأدبي لانصرافه إلى الاهتمام بالشعر الغنائي وما يتصل به . 
وقد وجدت في الأدب الشعبي عناصر تمثيل بدائية فيما يسمى خيال الظل ".
وقد وجدت المسرحيات العربية في – العصر الحديث – في الآداب الغربية الدعامة الحق لنشأتها ونهضتها . 
وكان السبق الأول في ميدان المسرح العربي لسوريا في حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وكانت سوريا في ذلك الوقت تشمل: سوريا ولبنان وفلسطين كلها مجتمعة، وكان أول من بدأ المسرحيات العربية فيها هو " مارون النقاش " (17-1855م)وقد كانت ثقافته إيطالية فرنسية تركية إلى جانب ثقافته العربية ، وقد أخذ عن الإيطاليين فن الإخراج .
والمسرحيات العربية الأصلية بعد ذلك لم تلتزم مذهباً معيناً بل تأثرت بالمذاهب كلها: الكلاسيكية ثم الرومانتيكية . 
أعقب ذلك ظهور المسرحيات الرمزية في  أدبنا العربي .
وهذا هو ما يخص الخطوط الكبيرة التي يضعها نصب عينيه فن يحاول القيام بدراسات مقارنة لجنس المسرحية الأدبي ، وهو الذي أخذناه عن الآداب الأوربية وقد أخذ يتأصل في أدبنا، ويؤدى رسالته الإنسانية والفنية في نطاق ما ذكرنا له من اتجاهات عامة.
المحاضرة الثانية عشر
تأثيرات عربية في الآداب العالمية النثرية  ( الخرافة – أو الحكاية على لسان الحيوان ) نموذجاً :
** تعريف الحكاية على ألسنة الحيوانات:
وهي حكاية ذات طابع خلقي وتعليمي في قالبها الأدبي الخاص بها، وهى تنحو منحى الرمز في معناه العام لا في معناه الذهني . 
فالرمز فيها معناه أن يعرض الكاتب أو الشاعر شخصيات وحوادث على حين يريد شخصيات وحوادث أخرى عن طريق المقابلة والمناظرة . 
وغالباً ما تحكي على لسان الحيوان والنبات والجماد ولكنها قد تحكي أيضاً على ألسنة شخصيات إنسانية تتخذ رموزاً لشخصيات أخرى .
والحكاية على لسان الحيوان تظهر فطرية في أدب الشعب قبل أن يرتقي من الحالة الشعبية " الفلكلورية " إلى المكانة الأدبية الفنية الأدبية ، وأدنى صورها في هذه الحالة أن تغير الظواهر الطبيعية تصويراً ميتافيزقياً أسطورياً على حسب عقائد الشعب أو تبين أصل ما سار بين العامة من أمثال، وحينئذ تجرى هذه الخرافات والأساطير الشعبية مجرى الحقائق ولا يكون لها معنى رمزي في صورته التي تحدثنا عنه، أما حين ترتقي هذه الأساطير ويكون لا معنى رمزي فإنها حينئذ تؤلف الجنس الفني المقصود هنا .
ومنشأ هذا الجنس فيه خلاف كبير بين الباحثين، فيرى بعضهم أن الهند أسبق من اليونانيين في هذا الصدد، كما يرى آخرون أن الحكايات المصرية على لسان الحيوان يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد .
ولا سبيل إلى القطع برأي في هذه المسألة فهذه الحكايات تنشأ شعبية أو أسطورية ثم تأخذ في الارتقاء إلى المكانة الأدبية فتتبادل الصلات مع الآداب الأخرى .
وحكايات الحيوان في الكتب الهندية السابقة كلها ذات طابع انفردت به ، فمن خصائصها الفنية ، طريقة التقديم للحكايات بالتساؤل والاستفهام من أصل المثل الذي وردت فيه الحكاية بعبارة "وكيف كان ذلك" ويتصور الإجابة عن الاستفهام عبارة"زعموا أنه كان" ومن خصائصها أيضاً أن الكاتب فيها يتناسى الرموز أي الشخصيات والحيوانات التي جعلها القاص رموزاً للناس.
وقد كان للأدب الإيراني القديم صلة بين الأدب الهندي والأدب العربي فيما يخص هذا الجنس الأدبي ففي عهد "أنوشروان" قد حصل طبيبه الخاص "برزويه" على نسخة من كتاب "بينج تانترا" الهندي ونقله للغة البهلوانية وأضاف إليه قصصاً أخرى . 
الحيوانان الرئيسيان في ذلك الكتاب من فصيلة "ابن آوى" ومنها استخرج اسم الكتاب الفارسي "كليلة ودمنة" الذي ترجمه عبد الله بن المقفع من البهلوية إلى اللغة العربية حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي .
وفي الأدب العربي القديم كانت ترجمة عبد الله بن المقفع سبباً في خلق هذا الجنس الأدبي الجديد في اللغة العربية ، ذلك أن حكايات الحيوانات في الأدب العربي القديم قبل "كليلة ودمنة" كانت إما شعبية فطرية ، وإما مقتبسة من كتب العهد القديم ، أي ذات طابع ديني أما ما عدا ذلك فمتأثر بكليلة ودمنة ومتأثر به .

وكان كتاب كليلة ودمنة ذا أثر قوي في الأدب العربي في العصر العباسي، ذلك أن خالد بن جعفر البرمكي كلف عبد الله بن الأهوان أن يترجمه له مرة ثانية، ثم صاغه نظماً في أربعة عشر ألف بيت " إبان بن عبد الحميد بن لاحق " للبرامكة أيضاً، وحاكاه في ذلك شعراء كثيرون منهم على بن داؤود، وبشر بن المعتمر، وأبو المكارم أسعد بن ظافر، ولم يصلنا من هذه الآثار الأدبية إلا نحو سبعين بيتاً من نظم أبان عبد الحميد نقلها الأصولي في كتابه " الأوراق ".
ولم يقف حظ هذا الكتاب عند الترجمة نظماً أو نثراً فقد نسج آخرون على منواله فألف سهل بن هارون كتاباً سماه " ثعلة والعفراء" وهو محاكاة لكتاب " كليلة ودمنة وقد حاكي على بن داؤود " سهل بن هارون في كتاب له سماه " النمر والثعلب ".
وممن من نسجوا على منوال "كليلة ودمنة" أخوان الصفاء في رسائلهم وقد نقلوا هذا الجنس الأدبي من المغزى الاجتماعي إلى الميدان الفلسفي، فألفوا محاكمة طويلة بين الإنسان  والحيوان أمام ملك الجان أطالوا في مرافعة الخصمين من الإنسان والحيوان ليبثوا في تلك المرافعة أفكارهم الفلسفية .

ثم توالى نظم الكتاب بعد ذلك في عصور مختلفة وكان آخر من نظموه " جلال الدين النقاش "من رجال القرن التاسع الهجري .
وقد أثرت العربية بدورها في الفارسية الحديثة تأثيراً عميقاً في هذا الميدان إذ كان قد فقد الأصل البهلوي الذي ترجم عنه بن المقفع، فأصبح " كليلة ودمنة " العربي – على حسب ترجمة بن المقفع له – أصلاً لكل ترجمة في اللغات الأخرى في هذا الكتاب .
ومن هذه الترجمات الفارسية ترجمة أبى المعالي نصر الله حوالي 1144م ثم ترجم مرة ثانية إلى الفارسية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، ترجمه حسين واعظ كاشفي " وبهذه الترجمة تأثر "  " لافنتين " الفرنسي فيما يخص هذا الجنس الأدبي .

أما في الأدب الغربي فقد نشأ جنس الحكاية على لسان الحيوان نثراً ثم سرعان ما صار شعراً وغلب طابع الشعر عليه ، وقد أثر الأدب اليوناني في الأدب اللاتيني فيما يخص هذا الجنس الأدبي فعلى الرغم من أصالة الشاعر اللاتيني هوارس " (65-8 ق.م)  في رسائله وبخاصة في الهجاء ، نجد أنه يدخل في كتب حكايات على لسان  يسير فيها على نهج اليونان – واستمر الحال هكذا إلى أن جاء الشاعر الفرنسي " لافونتين " الذي يرى أن الحكاية الخلفية على لسان الحيوان ذات جزأين يمكن تسمية أحدهما جسماً والآخر رواحاً ، فالجسم هو الحكاية والروح هو المعنى الخلقية ، ولكي يشف الجسم عن الروح لابد من إجادة تصويره تصويراً يثير ما للروح من خصائص .
ولذا حرص " لافونتين " على توافر المتعة الفنية في حكاياته بحيث يصور في شعره الأفكار العامة من وراء الحقائق الحسية .
وقد اقتبس " لافونتين " نحو عشرين حكاية من كتاب " كليلة ودمنة " ،  ذلك أنه كان يتردد على نادي " مدام دى ستال "، وكان من أعضاء ذلك النادي الطبيب الرحالة "برنييه" وهو الذي لفت نظر " لافونتين إلى كتاب ترجم من الفارسية إلى الفرنسية، وذلك الكتاب الفرنسي ليس سوى ترجمة حرة لكتاب " حسين واعظ كاشفي " الفارسي الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة " من العربية والفارسية "
وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ترجم " محمد عثمان جلال " كثيراً من حكايات  "لافونتين " في كتاب سماه " العيون اليواقظ في الحكم والأمثال والمواعظ " في شعر عربي مزدوج القافية ، ولكن ترجمته حرة لا تتقيد بالأصل فهو يمصر فيها أماكن الحكاية أو يجعلها تجرى في بلد عربي ويفيض على نصائحها طابعاً دينياً يقتبسه من القرآن الكريم أو الحديث وفيها قليل من الحكايات العامية في صورة "رجل ".
ومن هذا يتضح أن هذا الجنس الأدبي قد انتهى إلى أدبنا الحديث في صورة من الآداب الغربية فإذا كنا قد اقتبسنا فيه بعض موضوعات من أدبنا العربي القديم أو من كتاب "كليلة ودمنة" فإن أسسه الفنية ظلت محاكاة لحكايات " لافونتين ".
وأعظم  من برع في هذه الحكايات في أدبنا الحديث هو أحمد شوقي الذي بلغ بهذا الجنس في الأدب العربي أقصى ما قدر له من كمال حتى اليوم، وقد سار شوقي على طريقة  " لافونتين " الفنية .
وفن شوقي في هذه الحكاية على لسان الدجاج ويقصد بذلك إلى تنبيه الوعي القومي لدى المواطنين إلى خطر الغفلة والغيرة في علاقتهم بالأجنبي الدخيل، وكانت تلك قضية عصره يقول شوقي :
بيـنا ضعـاف من دجاج الـريــف                تـخــطــر فـي بــيـت لها ظريـف
إذا جـاء هـنـدي كبـيـر الـعــرف                فـقـام فـي الـبـاب مـقـام الضـيـف
يـقـول : حـيـا الله ذي الوجـوهـا                 ولا أراهــــا أبـــــدا مــكــروهــا
أتـيـكــم أنـشــر فـيـكـم فـضـلـى                 يـومـا و أقـضـى بـيـنـكم بـالـعـدل
وكــــل مـــاعــنـدكــــم حــــرام                عــلـــى ، إلا الــمــاء و الــمــنــام
فــعــاود الـدجـاج داء الـطــيـش                وفــتـحــت لـلــديك بـاب الـعــيــش
فـجــال فــيــه جــولـة الـمـلـيـك                 يـــدعـــو لــكــل فــرخــة وديـــك
وبــات تـلـك الـلـيـلـة الـسـعـيـدة                 مـــمــتــعـــا بــــداره الــجــديـــدة
وبـــاتـــت الــدجـاج فــي أمــان                 تـــحـــلــم  بــالــذلــة  و الــهــوان
حــتـــى إذا تـهـلــل الــصــبــاح                 واقــتـبـسـت مـن نـوره الأشــبــاح
صـاح بـها صاحـبـها الـفصـيــح                 يـقـول : دام مــنــزلــي الــمـلــيــح
فانتبـهت مـن نـومهـا المـشـؤوم                  مــزعــورة بـصـيـحــة الـغــشــوم
تـقـول : مـاتـلـك الـشروط بيـننا                 غــدرتــنـا ، والله ، غـدرلً بـيـنـا !
فـضـحك الهـندي حتى اسـتـلـقى                 وقـال : مـاهـذا الـعـمى ؟ يا حمقى
مـتـى مـلـتـكـم ألــســن الأربـاب                 قــد كـان هـذا قــبــل فــتـح الـبـاب
فلكل كلمة من الكلمات ، وكل جملة من الجمل قد اختارها شوقي في عناية تامة ليصف الحالة النفسية لكل من الفريقين . 
فلهجة الديك في تظاهره بالضعف ، وزعمه الرغبة في الخير، وتوكيده أن إقامته موقوتة ، تتفق تماماً مع وعود الإنجليز لذلك العهد ولهجتهم مع المصريين .
وبهذه القوة في التصوير الفني يؤدى هذا الجنس الأدبي رسالته خير أداء .

المذاهب الأدبية الغربية وتأثيرها في الأدب العربي

· المذهب الكلاسيكي
· المذهب الرومانسي
· المذهب الواقعي
· المذهب البرناسي
· المذهب السريالي
· المذهب الرمزي 
مصطلح أطلقه النقاد والأدباء على نتاجات فنية متميزة عبرت عن حالات نفسية عامة أوجدتها مسيرة الشعوب عبر التأريخ وملابسات الحياة ومتغيراتها وقد بدأت ملامح هذه المذاهب تتبلور ابتداء من عصر النهضة. وبفضل الاحتكاك بالثقافة الغربية استطاع أدباؤنا أن يطلعوا على هذه المذاهب الأدبية  ويتخذوها سبيلا لتطوير الأدب العربي شكلا ومضمونا.
1/ المذهب الكلاسيكي
أقدم المذاهب الأدبية في أوروبا ظهر بعد حركة البعث العلمي في القرن الخامس عشر. قائم على محاكاة الأدب اليوناني القديم. ويعدّ كتاب الشعر لأرسطو دستور الكلاسيكية الذي يتضمن القواعد النظرية لفنيّ الملاحم والتمثيل. اكتملت ملامح هدا المذهب في النصف الأول من القرن السابع عشر. عندما وضع الشاعر والناقد الفرنسي بوالو أسس المذهب الكلاسيكي في كتابه (فن الشعر).
مثلت الكلاسيكية تلبية للظروف الفكرية التي عاشتها أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر إذ سيطر العقل على الحياة الاجتماعية والفكرية وانعكس على الحياة الأدبية.

تتسم الكلاسيكية بما يأتي:
- العناية الكبرى بالأسلوب  بالحرص على فصاحة اللغة وأناقة العبارة واستعمال اللغة الراقية .
- الوضوح والفصاحة وجودة الصياغة اللغوية.
- والبعد عن التعقيد  وتجنب الإسراف العاطفي  والبعد عن الخيال  .
- الاعتماد على العقل فهو السلطان الذي يقود الوجدان والخيال ويجعله يسير في حدود العقل.
- خفوت النزعة الذاتية ورواج الأدب الموضوعي .
- التعبير عن حاجات الطبقة الارستقراطية .
- محاكاة القدماء والالتزام المطلق بأصولهم وقواعدهم في الإبداع الأدبي .
- اقتباس الموضوعات من التأريخ القديم .
ـ ربط الأدب بالمبدأ الخلقي وتوظيفه في الغايات التعليمية .
- احترام الأعراف والقوانين الاجتماعية السائدة
وتعد فرنسا التربة الخصبة التي ترعرع فيها هذا المذهب إذ تعد جماعة (البليياد) رائدة هذا المذهب في فرنسا التي ترى أن الإبداع الأدبي لن يتحقق إلا بالتمرس على الأدب اليوناني القديم. غير أن تأثير هذه الجماعة في الأدب لم يظهر إلا في القرن السادس عشر.
وهكذا فالأدب عند الكلاسيكيين هو الذي يعكس الحقيقة المطلقة التي لا تتغير بتغير المكان والزمان. وفي ظل الكلاسيكية راج الشعر المسرحي وضعف الشعر الغنائي وانمحت الذاتية تحت سلطة المجتمع الأرستقراطي.
ومن رواد هذا المذهب في فرنسا (موليير، وكورناي، وراسين). الذين اهتموا بالأدب التمثيلي وتشددوا في الأخذ بقانون الوحدات الثلاث لأرسطو، وقلدوا الأدب اليوناني.

أثر الكلاسيكية في الأدب العربي
انحصر تأثيرها في الشعر المسرحي عندما احتك الأدباء العرب بالمسرح الفرنسي الكلاسيكي عن طريق الترجمة. وظهر أثر الكلاسيكية بوضوح في مسرحيات (أحمد شوقي) الذي استفاد من إقامته بفرنسا فاطلع على المسرح الكلاسيكي  فكتب مسرحيات شعرية منها: مصرع كليوباترة، ومجنون ليلى، وقمبيز.

2. المذهب الرومانسي
بدأ هذا المذهب يتصدر الحياة الأدبية في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر وبلغ أوج ازدهاره في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان ثائرا على الكلاسيكية لإغراقها في الصنعة ومغالاتها في تعظيم العقل وإمعانها في السير على خطط القدماء.
أصل كلمتها من : رومانس Romance  باللغة الإنجليزية ومعناها قصة أو رواية تتضمن مغامرات عاطفية وخيالية ولا تخضع للرغبة العقلية المتجردة ولا تعتمد الأسلوب الكلاسيكي المتأنق وتعظم الخيال المجنح وتسعى للانطلاق والهروب من الواقع المرير.
من رواد المذهب في انجلترا شكسبير في القرن السابع عشر وهو أول من نسج خيوط الرومانسية في مسرحياته التي حلل فيها النفس البشرية مثل مسرحية تاجر البندقية ثم تجسدت في أعمال الشاعرين وردزورث و كلوريدج كما تجسدت في آثار وليام بليك وتوماس جراي.
ومن أعلامه في ألمانيا غوته وتشيلر أما العوامل التي ساعدت على نشوء الرومانسية في فرنسا فهي حالة التمزق والتغني بالفردية بسبب الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية أثر قيام الثورة الفرنسية وعودة الكثير من أدبائها من المنفى. أما في فرنسا فقد مهد للرومانسية عدد من الأدباء منهم جان جاك روسو وشاتو برييان ولامرتين وفكتور هيجو.
تتسم الرومانسية بما يأتي:
ـ بروز الذاتية في الأعمال الأدبية لأن الأدب في نظرهم أدب ذاتي وشخصي.
ـ اتخاذ الطبيعة مادة خاما لأعمالهم الأدبية والهروب إليها لصياغة التجارب الشعرية.
ـ تسعى إلى التعمق في أسرار الكون عن طريق تقديم الخيال وتفضيله على العقل وتقديس النزعة
  العاطفية إلى حد الإسراف.
ـ التعبير عن معاناة الضعفاء ومظاهر القلق والحزن والتفاؤل والتشاؤم.
ـ قيامها على العاطفة وهي نابعة من القلب. ولها طريق الإحساس والذوق  الموصل للجمال.
ـ الأديب عندهم يبدع انطلاقا من ذاتيته، ويتغنى بمشاعره.
ـ المجتمع الرومانسي مثالي لا أثر فيه للطبقية أو الظلم والطغيان.
ـ أدب الرومانسيين ثائر على الكلاسيكية وقواعدها وعلى كل ما يمت بصلة إلى الآداب اليونانية.
ـ الأدب وسيلة للتعبير عن الذات ودعوة لتحرر الإنسان من القيود القديمة.
ـ محاربة نظرية المحاكاة إذ الأدب عندهم إبداع عن طريق الخيال الجانح والعاطفة المتأججة.
– اهتموا  بالمضمون والأفكار أكثر من الأسلوب .
ـ دعوا إلى التحرر من الشكل والتركيز على الفطرة وفي ظل الرومانسية ازدهر الشعر الغنائي.


أثر الرومانسية في الأدب العربي :
وجد الأدباء العرب في هذا المذهب الذي يتميز بالثورة على كل أشكال الظلم والحرمان متنفسا يعبرون من خلاله عما يجيش في صدورهم من ضيق وعن آمال شعوبهم  في الحرية والعيش الكريم  والعدل والمساواة، وقد ظهر هذا التأثر في شكل كتابين نقديين هما: (الغربال) لميخائيل نعيمة و(الديوان) الذي ألفه العقاد بمعية المازني.
ومن أهم التيارات الأدبية العربية التي تأثرت بالرومانسية:
ـ الرابطة القلمية أو جماعة المهجر. أسسها سنة 1920م جبران خليل جبران، وتضم أدباء عدة مثل: نسيب عريضة، وإيليا أبي ماضي، وميخائيل نعيمة.
من الموضوعات المهمة التي عالجها المهجريون الحزن والألم والقلق والشوق إلى الأهل والحنين إلى الأوطان وذكر الطبيعة والاندماج فيها وتعمقوا في خبايا النفس البشرية. وكان للأدب المهجري أثر مهم في الأدب العربي.
ـ مدرسة الديوان: تأسست في 1921م ويمثلها كل من عبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد، وعبد القادر المازني، وقد أسهموا في تطوير الحركة الأدبية والشعرية من خلال:
الإطلاع الواسع على التراث العربي.
الإطلاع الواسع على الآداب الغربية والشعر الانجليزي.
ثار هؤلاء على الشعر الكلاسيكي عند القدماء والمحدثين بزعامة أحمد شوقي.
تجسد هذا الاتجاه في ديوان شكري (ضوء الفجر) وقد اصطبغ شعره برومانسية حزينة عبرت بصدق عن آلام المجتمع المصري أثناء الاحتلال، وضمن هذا المنهج النقدي اتجه العقاد والمازني في دعوتهما إلى التجديد، فنقد المازني المدرسة الاتباعية وسخر من شعرائها، وخصص بالنقد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي عندما أصدر كتابا سنة 1915 فيه مقارنة بين شعر حافظ وشعر شكري. أما العقاد فقد انطلق في حملته النقدية سنة 1921عندما أصدر كتاب (الديوان) مع المازني وانتقدا فيه شعر أحمد شوقي.
ـ جماعة أبولو: أسسها في 1932م أحمد زكي أبو شادي الذي أخرج لها مجلة تحمل الاسم نفسه، وضمت نخبة من الشعراء من أقطار مختلفة منهم: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأبو القاسم الشابي، والتجاني يوسف، وأحمد الشامي. ورغم افتقار الجماعة لتخطيط فني واختلاف نزعاتها إلا انه غلب غليها الاتجاه الرومانسي.
وقد تميز الأدب العربي الرومانسي بخصائص من أهمها على الصعيد الموضوعي:
(الصدق، وسيطرة الذاتية، والاهتمام بالنفس الإنسانية، وتمجيد الألم الذاتي والإنساني، واللجوء إلى الطبيعة التي منحت أشعارهم جدة وابتكارا، والدعوة إلى الخير والحق والجمال).
أما الصعيد الفني فقد تميز بخصائص من أهمها: (تجديد أساليب التعبير، رقة الألفاظ ووضوحها، وتجنب التراكيب القديمة، وإبداع الصور الفنية الجديدة، والاهتمام بالموسيقى الداخلية الناجمة عن انسجام الألفاظ).

3. المذهب الواقعي.
نشأت الواقعية الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر متأثرة بالنهضة العلمية والفلسفة العقلانية، دعا هذا المذهب إلى الإبداع الأدبي بتصوير الأشياء الخارجة عن نطاق الذات، والثورة على شرور الحياة والكاتب الواقعي يأخذ مادة تجاربه من مشكلات العصر الاجتماعية وشخصياته من الطبقة الوسطى أو طبقة العمال. وغايتهم أن يصبح الإنسان سيد الطبيعة في مجتمع عادل ومن ثم كان الأديب الواقعي أكثر أمانة في تصوير بيئته.
ولدت الواقعية بوصفها مذهبا يحمل طابعا تشاؤميا، ولعل ذلك راجع إلى المبالغة في تشخيص الآفات الاجتماعية، فهم ينظرون إلى الواقع بمنظار أسود، فالخير ما هو إلا بريق زائف، والشجاعة يأس من الحياة وضرورة لابد منها، والكرم مباهاة، والمجد تكالب على الحياة. هي صورة  للواقع ممزوجة بنفس الأديب وقدراته.
والواقعية فلسفة ترى أنّ المعرفة الصحيحة هي التي تستند إلى قاعدة تجريبية قابلة للمراجعة بصورة غير ذاتية. أمّا المعرفة التي تقوم على التخمين والحدس والتفكير والمقارنة فهي معرفة غير موثوقة ولا يعتدّ بها.


تتسم الواقعية بما يأتي:
ـ قيامها على أساس الفلسفة الوضعية والتجريبية.
ـ الدعوة إلى الموضوعية في الإبداع الأدبي.
ـ تصوير ما تعانيه الطبقات الدنيا.
ـ تشخيص الآفات الاجتماعية.
ـ غلب على أدبهم الطابع التشاؤمي.
ويعد (بلزاك) رائد الواقعية في فرنسا إذ خلف موسوعة في الأدب الواقعي  تشمل نحو مائة وخمسين قصة، أطلق عليها في أواخر أيامه (الكوميديا البشرية)، والفرنسي (فلوبير) كتب رواية (مدام بوفاري) التي صور فيها عصره بجميع مشكلاته. وفي انجلترا (شريدان، وتشارلز دي كنز) الذي قدّم وصفا للمجتمع الإنجليزي في رواياته (صحائف بكويك، ودافيد كوبر فيلد)
وقد واصل التيار الواقعي عند الغربيين تطوره حتى انتهى إلى الواقعية الطبيعية. ويعد (إميل زولا) رائدها. فالإنسان عندهم مقيد مجبر على إتباع نزواته. والأدب عبارة عن تحاليل مخبرية فالإنسان يرث عناصر الجريمة.
وقد ظهر تيار آخر للواقعية أطلق النقاد عليها اسم (الواقعية الجديدة) التي تصور واقعا متفائلا. وهي حصيلة النظرة الماركسية للأدب والفن، وهي حصيلة التجربة المعاصرة لكتاب الاتحاد السوفيتي، وقد التزموا بأهداف الطبقة العاملة والنضال في سبيل تحقيق الاشتراكية. من روادها (تشيكوف، وتوليستوي، ومكسيم جوركي) صاحب رواية (الأم).

ـ أثر الواقعية في الأدب العربي :
إن الأدب العربي الحديث في اتجاهه الواقعي لم يرتسم خطى الواقعية الغربية بنظرتها المتشائمة ورفضها للحياة. بل نهج نهجا خاصا استوحاه من الواقع العربي بمشكلاته الاجتماعية وقضاياه السياسية. فأبرز الأدباء عيوب المجتمع وصوروا مظاهر الحرمان والبؤس قصد الإصلاح. فكتب (طه حسين) مثلا (المعذبون في الأرض)، وكتب (توفيق الحكيم) رواية (حماري قال لي)، وكتب (يوسف إدريس) رواية (الحرام)، وكتب (عبد الرحمن الشرقاوي) رواية (الأرض).

المذهب البرناسي :
أو مدرسة الفن للفن، البرناس اسم جبل جعله الإغريق القدماء رمزا للشعر، ظهرت في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر يتزعمها الكونت دي ليل. وترى أن الأدب غاية في حد ذاته وليس وسيلة. والبرناسية مذهب أدبي فلسفي قام على معارضة الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شعراً واتخاذه وسيلة للتعبير عن الذات، بينما تقوم البرناسية على عدّ الفن غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير عن الذات، وهي تهدف إلى جعل الشعر فناً موضوعيًّا همه استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة أو إضفائه على تلك المظاهر، وترفض البرناسية التقيد سلفاً بأي عقيدة أو فكر أو أخلاق سابقة. وجدير بالذكر أن هذا المذهب لم يلق رواجا عند العرب لأنهم اهتموا بمعالجة قضايا الأمة والوطن.

المذهب السريالي :
ظهرت في فرنسا متأثرة بالتحليل النفسي ونظريات (فرويد) فجاء أدبهم كأنه هذيان محموم، لم يعش المذهب طويلا. ومعنى السريالي: ما فوق الواقعية أو ما بعد الواقع، وهي مذهب أدبي فني فكري، أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع أو بعده واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وهي تسعى إلى إدخال علاقات جديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية. وهذه المضامين تستمد من الأحلام؛ سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، ومن هواجس عالم الوعي واللاوعي على السواء، إذ تتجسد هذه الأحلام والخواطر والهواجس المجردة في أعمال أدبية. وتعد السريالية وفقا لذلك اتجاهاً يهدف إلى إبراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف.

المذهب الرمزي
ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والأديب الرمزي لا يسعى إلى نقل المعاني والصور إنما يعمل على نشر العدوى الفنية ونقل الحالات النفسية المستترة التي لا تقوى على أدائها اللغة في دلالاتها الوضعية. من روادها: (بودلير، وآرثر رامبو، وادجار ألان بو). والرمزية مذهب أدبي فلسفي يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بوساطة الرمز أو الإشارة أو التلميح.  والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة. ولا تخلو الرمزية من مضامين فكرية واجتماعية، تدعو إلى التحلل من القيم الدينية والخلقية، بل تتمرد عليها؛ متسترة بالرمز والإشارة. وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي.

 ـ أثر المذهب الرمزي في الأدب العربي :
  وجد هذا المذهب مجالا واسعا بين شعراء العربية في العصر الحديث انطلاقا من لبنان ويعد الشاعر اللبناني (سعيد عقل) ممثلا للمذهب الرمزي  في الأدب العربي، فضلا عن جورج صبيح وغيره من شعراء المهجر.